الأخبار: التأمين الإلزامي لا تدفع ولا تحيد من درب الدفّيعة!
كتبت ” الاخبار” تقول:نحو 90 مليار ليرة، تقريباً، تجنيها شركات التأمين، سنوياً، من بوالص السائقين المؤمَّنين لديها إلزامياً. الرقم كشفته لجنة الصحة النيابيّة، في شباط الماضي، لدى دراستها اقتراح قانون، لقي معارضة شرسة من شركات التأمين، يقضي بضمان وزارة الصحة للأضرار الجسديّة الناجمة عن حوادث السير. الاقتراح يعود إلى الواجهة، اليوم، مع إحالة وزير الداخليّة محمد فهمي (الرقم 5639) له، في حزيران الماضي، إلى أمانة سرّ اللجنة الوطنية للسلامة المروريّة للدرس وإبداء الرأي
بين تهرّب عدد من شركات التأمين عن التغطية بذريعة “العقود والشروط”، والتعثّر المالي لبعضها أخيراً، يبقى قسم كبير ممن يصابون بحوادث السير من دون تغطية استشفائيّة، رغم أنهم “مؤمّنون” إلزامياً. وبدل أن يقصد المتضرّرون، في حالات مماثلة، المؤسسة الوطنية للضمان الإلزامي أو لجنة الرقابة على هيئات الضمان للشكوى ضد الشركات التي تتخلّف عن الدفع، يلجأون إلى وزارة الصحة والضمان الاجتماعي للتغطية… ولأن هذا “اللجوء” واقعٌ حتماً، كان الاقتراح بأن تتكفّل وزارة الصحة بالتغطية الاستشفائية للمتضرّرين من حوادث السير، على أن تستوفي الرسوم منهم، بدل أن تقدم (ومعها الضمان الاجتماعي) هذه التغطية من دون مقابل، فيما لا تفعل معظم شركات التأمين سوى جباية الرسوم من حاملي البوالص.
اقتراح القانون الذي قدّمه النائب بلال عبد الله إلى المجلس النيابي، العام الماضي، اعترض عليه بشراسة، “تكتّل” الضامنين وشركات التأمين بحجّة عدم إمكانية تطبيقه، بسبب نقص الموظفين في الوزارة (!)، ولعدم قدرتها على الجباية، ولأسباب أخرى، فيما “بيت القصيد” في مكان آخر: هذه الشركات لن تتخلّى عن مصدر دخل رئيسي لا تنفق منه الكثير على حاملي البوالص.
الاقتراح أحيل إلى مجلس الوزراء، وأبدت بشأنه وزارة الماليّة مطالعتها (الرقم 2043، تاريخ 20/7/2019) ووزارة الصحة ملاحظاتها (الرقم 14578/1/19 تاريخ 1/10/2019) وهيئة إدارة السير والآليات والمركبات (وزارة الداخلية) مطالعتها (الرقم 31257/2019 تاريخ 5/3/2020). وهو لا يزال موضع نقاش في لجنة الصحة النيابية التي أعلنت، في جلسة في 18 شباط الماضي، لـ”اعتبارات متعلّقة بشموليّة الموازنة”، أنها مستعدّة لطيّ اقتراح عبد الله، شرط أن يقدّم وزير الاقتصاد (الذي تتبع لوصايته لجنة الرقابة على هيئات الضمان وشركات التأمين الإلزامي) “ضمانات بوقف عمل أي شركة تخالف هذا الأمر، واتخاذ إجراءات قاسية بحقها”. بعد تلك الجلسة، دخل لبنان دوامة كورونا والتعبئة العامة والضغط الاستشفائي والاقتصادي، ولم تأتِ ضمانات وزارة الاقتصاد بمستوى الوضع المأزوم، فكانت أزمة إعلان شركات التأمين أنها لن تغطّي مصابي كورونا مثلاً، ثم ضجّة إعلانها (وتراجعها لاحقاً) عن استيفائها البوالص بالدولار… وهو ما يبيّن أن شركات التأمين الخاصة تضع الأولويّة لأرباحها الماليّة قبل صحّة حاملي بوالصها، في غياب الإجراءات الصارمة بحقّها، ما عدا ما تعلن عنه لجنة الرقابة على هيئات الضمان من “تفتيش” وتكريسها خطاً ساخناً للشكاوى.
رئيس لجنة الصحة النيابية عاصم عراجي أوضح في اتصال مع “الأخبار” أن “الاقتراح لا يزال لدى اللجنة، إنما استجدّت مشاكل عدة، من بينها الوضع الصحّي، فلم يعد أولويّة. ولكن لا مانع من العودة لدرسه”. وفيما تؤكد مصادر وزارة الداخلية أن “الاقتراح إيجابي ولا اعتراض من الوزارات على تكفّل الصحّة بالمصابين”، أشارت مصادر وزارة الصحة إلى “أننا طلبنا دراسة جدوى للسنوات الخمس الماضية، بشأن هذا الطرح، لنتبيّن التكاليف وقدرة الوزارة على التغطية مع ازدياد أعداد من باتوا بلا ضمان ممن فقدوا وظائفهم”. وتضيف: “الاقتراح بحاجة إلى تعديلات، وربما الى إنشاء صندوق خاص بالوزارة”.
رغم اعتراض الشركات، أحال وزير الداخليّة والبلديّات محمد فهمي (الإحالة الرقم 5639)، في 4 حزيران الماضي، اقتراح القانون مضمّناً كتاب هيئة السير والمركبات والآليات، إلى أمانة سرّ اللجنة الوطنية للسلامة المروريّة، للدرس وإبداء الرأي الاستشاري. أمانة السرّ عرضت الاقتراح على أعضاء اللجنة الذين تحفّظ عدد منهم عليه، ولا سيّما رئيسة لجنة الرقابة على هيئات الضمان بالإنابة نادين حبّال ورئيس جمعية شركات الضمان في لبنان إيلي طربيه… ولم تقدّم الأمانة إلى حينه جوابها لوزير الداخليّة. جواب اللجنة، في حال جهوزه، يفترض أن يُعرض على المجلس الوطني للسلامة المرورية مضمّناً توصيات وزير الداخلية، ليُعرض بعدها على مجلس الوزراء.
من بين مؤيّدي الاقتراح، أمين سرّ اللجنة الوطنية للسلامة المرورية رمزي سلامة، الذي قدّم مطالعته وملاحظاته ضمن اللجنة، وهو أوضح لـ”الأخبار” أن المبدأ الأساسي هو “الحقّ بالصحة للجميع، وتأمين الاستشفاء الفوري من دون استثناءات لكل مصاب في الصدامات المروريّة، بدلاً من انتظاره في طوارئ المستشفى أو التأخّر بعلاجه وتعريضه للإعاقة أو الموت… من ثمّ تتمّ دراسة حدود تحمّل الأعباء من وزارة الصحة لأنها حالياً تتكفّل بجزء من المصابين”. وهذا الموضوع، بعكس ما يراه أصحاب شركات التأمين، “ليس تعدّياً على مهام قطاع التأمين، بل هو واجب الدولة تجاه مواطنيها لحمايتهم من الوفاة والإعاقات الدائمة”. وعن الملاحظات حيال جباية الاشتراكات من قبل الوزارة، يرى سلامة أن “ذلك لن يحصل، ولن تسدّد الوزارة أي تعويضات متعلّقة بالإصابات الجسديّة والأضرار الماديّة الناتجة من الصدامات المروريّة”.
المسألة، بنظر سلامة، أبعد من ملاحظات على اقتراح قانون يمكن تعديله وتحويله إلى مشروع قانون بمراسيم تطبيقيّة حديثة، بل هي مرتبطة بـ”عقد العمل من أجل السلامة المروريّة على الطرق، وهو عقد دولي صدر قبل 10 سنوات، تشدّد ركيزته الخامسة على العناية بمصابي الصدامات، وتبدّل بعده الاهتمام الدولي بالسلامة المرورية والمتضرّرين منها، وخصوصاً أن المرسوم الاشتراعي (الرقم 105/1977) ومراسيمه التطبيقيّة، باتت قديمة جداً وتحتاج إلى تحديث، وفيها الكثير من الاستثناءات حيال التكفّل بالأضرار الجسديّة للسائق ومن معه (50 في المئة من أضرار الغير) فمن يتولّى الباقي؟”. ويطرح سلامة جملة أسئلة حيال “مشاكل الضمان الإلزامي، والمبالغ المتراكمة لدى المؤسسة الوطنية للضمان الإلزامي من دون أن تكون وجهتها تغطية استشفاء من ليسوا مضمونين إلزامياً؛ إلى تعويضات لم تدفع إلى حينه لحاملي البوالص تعود إلى أعوام سابقة، وفق آخر تقرير أصدرته شركات التأمين عام 2018، علماً بأن العرف العالمي يوجب دفع التعويضات خلال سنتين من الصدام”.
أما المعترضون، فلديهم مقاربة مختلفة، تنطلق من أن “التأمين لا يدخل ضمن مهام وزارة الصحة ولا يمكنها جباية الرسوم، بل إن أي خطوة من هذا النوع تحتاج إلى دراسات اكتواريّة وفنية وتقييم وليس إلى مواقف شعبويّة”، وفق حبّال التي أعلنت “التحفّظ عن الاقتراح، وقد أطلعت وزير الداخليّة على رأيي وكذلك أعضاء اللجنة”، كما تقول لـ”الأخبار”. وتردّ حبال على مشاكل الضمان الإلزامي وتلكّؤ شركات التأمين في التعويض على المتضرّرين، بأن “من مهامنا اتخاذ الإجراءات بحقّ الشركات المتخلّفة عن الدفع، وهو ما نقوم به، كما اتفقنا مع الضمان الاجتماعي على عدم تغطية استشفاء من يملكون بوالص إلزامية”. كذلك أبدى طربيه، وهو عضو الهيئة الوطنية للسلامة المرورية، تحفّظه عن الاقتراح الذي “سقط بالنسبة إلينا، ونناقش موقفنا في اللجنة”، وفق ما أكد لـ”الأخبار”. موقف طربيه ينطلق “من عدم القبول بتجزئة البوالص بين تعويض واستشفاء”، وسأل: “كيف لوزارة الصحة التكفّل بالمصابين ولديها مبالغ مستحقة غير مدفوعة للمستشفيات، وهل من مداخيل للدولة للتغطية في هذا الظرف؟ إضافة إلى أن هذه النقلة تحتاج إلى فترة انتقاليّة حرجة”. رأي طربيه لا يبتعد عن فكرة عدم سحب التأمين الإلزامي من يد شركات التأمين “إذ إن 90% من البوليصة تذهب لكلفة الاستشفاء، وعندها لا مصلحة للمواطن للتأمين لدى الشركات!”. ومن دون أن ينفي عدم التزام شركات التأمين بالتعويض على العديد من المتضرّرين، يشير إلى أن “الموضوع متعلّق بعدم تبليغ الشخص أنه مؤمّن لدى المستشفى، لكن فور تبلغنا بحالات من هذا النوع، نتواصل مع شركة التأمين ويُحل الموضوع”، سائلاً: “إذا أصبحت التغطية بيد وزارة الصحة، هل يمكن للمتضرّر رفع شكوى على الدولة؟”.
ملف الضمان الإلزامي وضرورة إعادة النظر فيه، لا ينطلق من واقع تقاعس شركات التأمين وحسب، بل من ضرورة معالجة وزارة الاقتصاد “الفجوة القانونيّة” بين المراسيم التطبيقيّة ونص المرسوم الاشتراعي الذي حدّد مهام المؤسسة الوطنية للضمان الإلزامي. فقد أنيطت وفق المادة 9 من المرسوم الاشتراعي (الرقم 105/1977) المتعلّق بالضمان الإلزامي بمهمّة “دفع التعويضات عن الأضرار الجسدية في حالات، مثل الأضرار التي تسبّبها مركبة غير مضمونة أو مركبة مجهولة، كما الأضرار التي تسبّبها مركبة عجزت هيئة الضمان المعنيّة عن دفع التعويض المتوجّب عليها بسبب إفلاسها أو توقفها عن الدفع”. غير أن المرسوم التطبيقي (الرقم 9585/2003) حصر مهام المؤسسة خلال مرحلة أولى بتحديد نموذج عقد الضمان الإلزامي وتعرفة أقساط الضمان الإلزامي، من دون أن يأتي على ذكر باقي المهام المحدّدة في القانون، ومن بينها موضوع دفع التعويضات؛ إضافة إلى إبطال مجلس شورى الدولة (عام 2017) القرارات التنظيمية الصادرة عن المؤسسة والمتعلّقة بنموذج عقد الضمان الإلزامي وبتعرفة أقساط الضمان. وعليه، يرى حقوقيّون أنه في الوضع الصحي والاقتصادي الراهن توجد حلول أكثر واقعية وأسرع تطبيقاً، تبدأ أقلّه بتعديل المرسوم التطبيقي (الرقم 9585/2003) عبر توسيع نطاق مهام المؤسسة الوطنية للضمان الإلزامي (شرط وضع تقارير دقيقة حول وارداتها) لتشمل تغطية الأضرار في حال عجزت بعض شركات التأمين عن تغطيتها، في مقابل التزام الشركات بتسديد نسبة من أقساط التأمين الإلزامي لمصلحة هذه المؤسسة، انسجاماً مع أحكام قانون الضمان الإلزامي (المرسوم الاشتراعي الرقم 105/1977) وتطبيقاً لها بعدما جرى تعطيلها بموجب المرسوم التطبيقي المذكور.