لبنان: المطلق في المعترك

لا يُفهَمُ لبنانُ إلّا في َكونِهِ مُطَلقاً. وَلا يُقصَدُ إلَّا وِفقَ مُتَطَلِّباتِ هَذِهِ المُقارَبَةِ الماوَرائِيَّةِ لِوجودِهِ. إذ ذاكَ يُدرَكُ لِمَ عَلَيهِ مواجَهَةُ مَصيرٍ مأساويٍّ شاءَهَ لَهُ مَن هُم نَقيضُهُ، قَتلاً عَمداً لِوجودِهِ الذي يَقُضُّ مَضاجِعَهُم، هُم مَن يَتَسَلَّطُ، ظُلماً وَجَهالَةً، على المَصائِرِ.

أفي ذَلِكَ مَسارُ لبنانَ الخَلَّاِق، الذي فيهِ وَبِهِ تِتَآلفُ القِيَمُ والسياسَةً؟ قًل: هَذا قَلبُ مُطلَقِهِ وَعَقلهُ يَعمَلانِ مَعاً، بِلا إنفِصامٍ. فالقِيَمُ التي في مُطلَقِهِ لا تَتَحَقَّقُ بِمَعزِلٍ عَن الله، والسياسَةُ بِموجَبِ مُطلَقِهِ لا تَتأصَّلُ بِمعزلٍ عَن الله. وَفي لُدُنِ هَذا المُطلَقِ، السَويِّ بَين سَخاءَينِ، تَحقيقٌ واحِدٌ.

أجَل! لَم يَكُن لبنانُ إلَّا تَحقيقاً في أرضٍ وإقلاعاً مَنَ الماوَرائِيَّةِ، في تَحقيقٍ بَيِّنٍ الى رِحابِ حياةِ الجَوهَرِ، فيما حَواضِرُ نَقيضِهِ هُروبٌ مُتَسَتِّرٌ، لاواعٍ، بَينَ دَفَتَّي المَواضي والمآتي. لِذا تَبقى على إستِحقاقٍ مَعَ مُعادَلاتِ المَوتِ، فيما هوَ يَطأوها بِتَوَغُّلِ القِيامَةِ.

أفي ذَلِكَ تَستَوي حَقيقَةُ أنَّ لبنان دَليلٌ؟ الحَقَّ، أنَّهُ بِتِجاوزِهِ حَميمِيَّةَ المَحسوساتِ، يَتَذَهَّنُ أكثَرَ فأكثَرَ في البُعدِ الماوَرائِيِّ-الإيمانيِّ الحَيِّ، فيما مِن هُم نَقيضُهُ يَتَوَغَّلونَ في عَبَثِيّاتٍ لا تَقوَ على سَبرِ أغوارِ المَوت… والحَياةِ. إنَّهُ إذأ الدَليلُ والمَدلولُ، الإختِبارُ والإنكِشافُ. وَبِكَلِمَةٍ: الإندِفاقُ! إندِفاقُ الحاجَةِ المَوثوقَةِ إليهِ، في عالَمٍ مُنجَرِفٍ بِطُقوسِيَّاتِ العَلمَنَةِ حَدَّ الإلغاءاتِ، والأصولِيَّاتِ حَدَّ الإقصاءاتِ.

هوَ الحَدُّ، وَهوَ المواجَهَةُ بَتآلُفِ الذاتِيَّاتِ والغَيرِيَّاتِ التي لا تَنمو إلَّا… بالُمُجازَفاتِ.

وَهوَ الخَلاصُ لِعالَمٍ مُتَهَرِّبٍ مِن تيهِهِ وَمُتَقَلِّبٍ في ثَوابِتِهِ وَمُتوَجِسٍّ مِن فَواجِعِ ثَوابِهِ.

وَما بَلاؤهُ؟ بَلاءُ لبنان اليَومَ، لا في مَن هُم نَقيضُهُ وَحَسبُ، وَهُم خارِجَهُ، بَل مِمَّن في داخِلِهِ مَن تَزَعَمَّ عَلَيهِ وَقَد حَوَّلَهُ إنصِهاراً يَبلُغُ الإلغاءَ للماوَرائِيِّ، تَحتَ سِتارِ لَعنِ “الطائِفِيَّةِ”، فَلا يُقيمُ إلَّا في أحادِيَّةِ المَوتِ وَلُجَجِهِ المُتناحِرَةِ. وَهنا الخُطورَةُ الأكبَرُ. هَؤلاءِ إذ لا يَقِفُ جُنوحُ شَهواتِهِم رادِعاً لإشباعِ رَغَباتِهِم، حَوَّلوا السِياسَةَ، إذ هيَ غايَةُ الحُرِيَّةِ الى تَقزيمِ وَطَنٍ قَصدَ إبتلاعِهِ غَنيمَةً بَينَ غَنائِمَ، أوَّلُها بَشَرِيٌّ وآخِرُها  ذاتانِيَّةٌ لا تَرعَوي. في ذَلِكَ لا تَدنيسٌ لِمُطلَقِ لبنان، بَل الجَريمَةُ القُصوى بِحَقِّهِ… لأنَّها لا تَجعَلُ لبنان شَهيدَ الرَجاءِ القائِمِ مَنَ المَوتِ لِلحياةِ، بَل قَتيلَ العَدَمِيَّةِ المَرذولَ مِن مُعتَرَكِهِ. 

الوَيلُ لَكُم!

الوَيلُ لَكُم، أنتُم يا مَن حَوَّلتُم لبنان مِن مٌعتَرَكٍ، الى مُعطى عُزلَةٍ!

الوَيلُ لَكُم، أنتُم يا مَن شَوَّهتُموهُ مِن عَجَبٍ الى إعتِباطٍ!

الوَيلُ لَكُم، أنتُم يا مَن جَعَلتُم مِمَّن هوَ ال”في حَدِّ ذاتِهِ” مَظهَرَ تَشَيوءٍّ مُعَرقِلٍ!

الوَيلُ لَكُم، أنتُم يا مَن جَرَّدتُموهُ مِن مُستَحيلاتِهِ لِيَتَخَبَّطَ في إبتِغاءِ الطَلاحِ!

الوَيلُ لَكُم، أنتُم يا مَن نَحَرتُموهُ وَهوَ المُتَوَقعِنُ في السُطوعِ ليَلهَجَ صَوبَ مِحَنِ الهَولِ!

الوَيلُ لَكُم، أنتُم يا مَن دُستُموهُ وَهوَ المُصطَفى، وَطَويَتُموهُ وَهوَ المُرتَقى!

الوَيلُ لَكُم، أنتُم يا مَن رَذَلتُموهُ وَهوَ وَديعَةُ الحَقِّ المُتأخلِقِ ليَنتَهيَ شاحِذاً دونِيَّاتِ اللهفَةِ!

أجَل! نَحنُ مَن هوَ، لِزامٌ عَلَينا أن نَبقاهُ… لا مِن بابِ ما يُمكِنُ أن نَكونَ، بَلِ مِن أبوابِ ما يَجِبُ أن يَبقى لِنَكونَ. نَحنُ. وَهُم الى إندِثارِ قُبورٍ.

كُلُّنا هوَ: المَعرَكَةُ الحَقيقِيَّةُ ها هُنا. هيَ مَعرَكَةُ مَصيرِ الله في الإنسانِ. تِلكَ مَعرَكَةُ لبنان اللبنان، حَيثُ لا تُربَحُ السَماءُ… مِن دونِهِ.

*الصورة المرافقة رسم زيتي لمدينة بيروت عام 1844 بريشة الفنان الفرنسي جول كوانييه (1798–1860)

د. ناجي م. قزيلي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.