“البدائل” غير متوافرة… لماذا سقطت “مبادرة” بري الحواريّة؟!

قبيل انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، وبعدما تحوّلت جلسات انتخاب خلف له إلى “مسرحية استعراضية”، أصابها “الملل” وأضحت خالية من عنصر “التشويق”، أدار رئيس مجلس النواب نبيه بري محرّكاته، فأعلن “عزمه” إطلاق مبادرة “حوارية” تجمع مختلف القوى السياسية الممثلة في البرلمان، من أجل التوصل إلى توافق يتيح “تحرير” الاستحقاق الرئاسي، وانتخاب رئيس للجمهورية، يفتح الباب أمام إعادة انتظام المؤسسات.

لكن، بعد يومين فقط من وقوع “الفراغ” في سدّة الرئاسة، ودخول البلاد في “متاهات” لا أفق لها، خصوصًا في ضوء عدم تشكيل حكومة أصيلة يمكنها أن تستلم صلاحيّات رئيس الجمهورية، عاد بري ليطفئ محرّكاته من جديد، مع “اعتذاره” عن عدم المضيّ قدمًا في مبادرته، وهو ما عزاه إلى الاعتراضات والتحفّظات التي اصطدم بها، خصوصًا من جانب كتلتي التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، وفق ما أوضح في بيان صدر عن مكتبه الإعلامي.

وإذا كان لـ”التيار” و”القوات” رأيهما “المتناقض” إزاء مبادرة بري، بين من يتحفّظ على “توقيتها”، باعتبار أن المطلوب اليوم انتخاب رئيس للجمهورية، وليس فتح حوار تأخّر أوانه كثيرًا، ومن يعترض على “عرّاب” الحوار نفسه، الذي فرض نفسه “طرفًا”، وبالتالي لا يمكنه أن يكون “وسيطًا”، يبقى السؤال الذي يفرض نفسه: ماذا عن “سيناريوهات” ما بعد سقوط الحوار؟ وهل من “بدائل عمليّة” يمكن البناء عليها؟.

بالنسبة إلى “التيار الوطني الحر”، فإنّ مشكلة الحوار الذي كان بري يعتزم الدعوة إليه، وقال إنّه بدأ استمزاج الآراء بشأنه بين الكتل النيابية، لا تكمن في المبدأ، الذي يتّفق الجميع على أهميته، ولا حتى في “صلاحية” رئيس مجلس النواب في الدعوة إلى طاولة حوار، كما أوحى الرئيس ميشال عون، حين قال إنّ هذه الصلاحية محصورة برئيس الجمهورية، وإنّ “لا حق” لرئيس مجلس النواب بمصادرتها حتى في حال الشغور الرئاسي.

يقول المحسوبون على “التيار” إنّ المشكلة الفعلية تكمن في “شخص” صاحب المبادرة، إذ لا يمكن لرئيس مجلس النواب أن “يشتم” بعض القوى السياسية، ثمّ يدعوها إلى طاولة حوار برعايته، وهو ما فعله تحديدًا مع الوزير السابق جبران باسيل، خصوصًا أنّ النقاش بفكرة الحوار جاء في وقت كانت المنصّات الإعلامية المحسوبة على حركة “أمل” تهاجم باسيل، ومعه عون، بشكل غير مسبوق، وهو ما أثار الكثير من علامات الاستفهام، وربما الريبة.

أما مقاربة “القوات”، فحتى لو تقاطعت في الشكل مع “التيار” على منطق رفض “حوار بري”، إلا أنّها تختلف “حدّ التناقض” في المضمون، وتختصرها أوقات محسوبة عليها بالإشارة إلى “التوقيت الخاطئ” لإدراك مثل هذه المبادرة، التي كانت لتكون أكثر من مقبولة، لو أنّها جاءت قبل أشهر من الآن، أما أن تحدث بعد وقوع الفراغ الرئاسي، ففي الأمر أكثر من إنّ، خصوصًا أن الوقت بات فعليًا وقت انتخاب، وليس وقت حوار.

وترفض أوساط “القوات” تبرير المحسوبين على بري بوجوب الحوار، باعتبار أنّ جلسات انتخاب الرئيس لم تعد تنفع، حيث تشدّد على أنّ المطلوب تطبيق الدستور، وعقد جلسات مفتوحة لا تنتهي سوى بانتخاب رئيس، مشدّدة على أنّ الكتلة النيابية المحسوبة على بري هي “شريكة” أساسًا في المشكلة، طالما أنّها “تسهم” في “تطيير نصاب” الجلسات في دوراتها الثانية، فيما المطلوب منها “الحرص” على تأمينه لإنجاز الانتخاب.

ومع أنّ بري لم يسمّ في بيانه سوى كتلتي “التيار” و”القوات”، فإنّ العارفين يضعون موقف البطريرك الماروني بشارة الراعي أيضًا ضمن “الأسباب الموجبة” التي دفعته إلى “فرملة” مبادرته، إضافة إلى سائر قوى المعارضة، التي لم تَبدُ متحمّسة هي الأخرى للمشاركة في أيّ حوار، ما كان سيوقعه في “فخّ” عدم تلبية دعوته سوى من فريق واحد، ولو أنّ هذا الفريق بحاجة إلى “حوار داخلي” لحسم موقفه، وفق ما يرى البعض.

لكنّ المحسوبين على بري يدافعون عن “مبادرة” الرجل، باعتبار أنّ البلاد دخلت في “المحظور”، وبالتالي كان يمكن لهذا الحوار أن يشكّل “فرصة جدية” للحدّ من “التشنّج” الذي ترافق مع انتهاء ولاية الرئيس عون، والذي ترجم “سجالات نارية وأسقفًا مرتفعة” على أكثر من خط، ويأسفون لعدم التجاوب مع رئيس البرلمان من قوى لن تتأخر في تلبية أيّ دعوة للحوار يمكن أن تصدر عن جهة أجنبية، وقد يحصل ذلك عاجلاً أم آجلاً.

أما عن البدائل، فصحيح أنّها لا تبدو “متوافرة” في الوضع الراهن، وطالما أنّ الاستقطاب السياسي لا يزال في ذروته، إلا أنّ المحسوبين على بري يؤكدون أنّه لن يتأخّر في إعادة تحريك وساطته متى وجد الأمر مناسبًا، ومتى نضجت الظروف التي تسمح لها بالنجاح، لأنّ ما يريده ليس إطلاق الحوار، بل إنجاحه من أجل “تحرير” الاستحقاق الرئاسي، بعيدًا عن لغة “التحدي والمواجهة” التي أصبح واضحًا أنّها لن تغيّر شيئًا في المعادلات.

ولعلّ أحد “السيناريوهات” المحتملة في المرحلة المقبلة يكمن في إحياء فكرة “التشاور”، ولو على مستويات ثنائية، بما يمكن أن يمهّد لحوار أوسع، وربما “تفاهم” على مقاربة “موحّدة” لاستحقاق الرئاسة، علمًا أنّ بعض الأوساط السياسية تنبّه إلى أنّ “البديل الحقيقي” الوحيد قد لا يكون سوى “الفوضى” التي بشّر بها كثيرون في الآونة الأخيرة، والتي ستكون تداعياتها “أثقل” من قدرة اللبنانيين على تحمّل في ظلّ الأوضاع الحالية.

بمعزل عن قدرة “الحوار” على إحداث أيّ خرق في المشهد السياسي المتأزّم، خصوصًا إذا ما أصرّ الداعون إليه قبل المتحفّظون عليه، على منطق “التصلّب” في آرائهم، والسعي لفرضها على الآخرين، فإنّ الواضح أنّ القوى السياسية لم تدرك حتى الآن “خطورة” الفراغ، الذي لا يشبه بشيء فراغ 2014 من حيث الظروف الموضوعية، كما التداعيات الحتميّة، ولعلّ المطلوب منها “مراجعة نقدية” قبل كلّ شيء، تبني عليها مواقفها وخطواتها!.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.