نورٌ وأَيقونَة

إنَّ دخولَ الرّبِّ عالَمَنا ارتقاءٌ إِلهيٌّ لِجنسنا البَشريّ. لذلك لنا في أيقونة عيدِ الميلاد مَشهدٌ إلهيٌّ صَرف،رُغمَ أنَّ مَسرحَ أحداثِها أرضُنا الترابيَّة. وَذلِك ليقولَ للعالَم: إِنَّ الخالقَ على الأرضِ ليرفَعَ المخلوقَإلى السماء.

تاريخِيًّا، أخَذَ عِيدُ الميلادِ استقلالَهُ عن عِيد الظُّهور الإلهيّ[1] في القَرنِ الرّابِع الميلاديّ، وَحُدِّدَ له يومَ ٢٥ كانون الأوَّل مكان عِيد “إله الشَّمس التي لا تُقهَر” عِند الرومان.

إِنَّ عبادَة الإنسانِ للشمس مرتبطٌ ببحثه عن النّور. هذا ما يُظهرُهُ قُرصٌ روماني phalera مِن القَرن الثّاني الميلادي، وقد نُقِشَ عليه هذه العِبارة: “أمجّدُ الشمسَ التي لا تُقهَر، خَالِقَ النور”. فهذا النَوعُ مِنَ الأقراصِ غَالبًا ما يكونُ مَصنوعًا مِن الذَهبِ أو الفِضَّةِ أو البرونز أو الزُجاج، ويُمنحُ كميداليّة للجنودِ الرّومانِيّين، فيُعَلِّقونَها على صُدورهم أثناء مَسيراتِهم الاحتفاليّة.

هذا البحثُ وصَل إلى كَمالِه مع الإلهَ الحقيقيَّ الذي هوَ مَصدرَ كُلِّ نورٍ وحياة. وأَيُّ ميداليِّةٍ تُوهَبُ لنا أفضلُ مِن أن يَسكنَ النورُ الإلهيُّ فينا، هذا النُّور الذي لا يُدركُهُ ظلامٌ،”النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ”، (يوحنا ٩:١)، الذي هوَ الرّبُّ يسوعُ المسيح!

فَمنذُ البداية ظَهرَ الربُّ لموسى النّبيّ كَنورٍ في الْعُلَّيْقَة المشتعلَة غيرِالمُحترقَةِ، وأخبرَهُ بأنَّه سيُخَلِّصُ شعبَه، وعَرَّفَه عن اسمه: “يهوه”. الذي هو معنى اسم يسوع، أو يشوع: “يهوه يُخَلّص[2]“.

كذلك تنبأ ملاخي النبيّ (ق٥ ق م) عن مجيء المَسيح قائلًا: “وَلَكُمْ أَيُّهَا الْمُتَّقُونَ اسْمِي تُشْرِقُ شَمْسُ الْبِرِّ وَالشِّفَاءُ فِي أَجْنِحَتِهَا، فَتَخْرُجُونَ وَتَنْشَأُونَ كَعُجُولِ الصِّيرَةِ”. أي إنَّ الذين في الحَظيرة يأكلون مِن المِعْلَف. (ملاخي ٢:٤).

هذا ما تَذكرُهُ طروباريِّةُ عيدِ الميلادِ بِوصفِها المسيح بـِ “شمس العدل” الشّافي. وأيضًا تقول: “قد أَطلَعَ نورَ المعرفةِ للعالَم”، هذه المعرفة توصلُنا إلى ابنِ اللهِ لنَنْمُوَ تحتَ جناحَيه، ونَتناولُ القدسات لنَصلَ إلى مِلءِ قامةِ المسيح[3].

هذا هو عيد الميلاد، وأيقونتُه النورانيَّةُ بامتياز. فهيَ تُظهِرُ لنا الرَّبَّ يسوعَ المسيح المُقَمَّطَ بلفائِفَ بيضاءَ، والمُضطجِعَ في المِذودِ، وَوالدِةَ الإله، ويوسفَ خطيبَ مريم، والملائكة، والرعاةَ مع الخراف، والطفلَ المولودَ الذي يَغتَسِل، وَالمَجوسَ الآتينَ مِن بَعيد، والنجمَ الذي دَلَّ على مكانِ ولادةِ الطفل الإلهيّ. بالإضافة إلى المغارةِ والحيوانانِ والطبيعةِ الجغرافيَّةِالمُزهِرَة.

فكلُّ هذهِ المشاهد، بحسبِ الإنجيلِيَّين متى ولوقا، موجودةٌ في أقدَمِ أيقونةٍ ميلاديَّةٍ من القرن السادس الميلاديّ، ومَحفوظةٌ في ديرِ القدّيسة كاترينا في سيناء. كما يوجد جداريّات من القَرنِ الثالثِ الميلاديّ في دياميس روما، تُظهِرُ لَنا والِدَةَ الإلهِ ويسوع، والمِذوَد، والنجمَ والرعاةَ والمجوسَ والحيوانان.

يُخبرنا إنجيلُ لوقا أنَّ مَلاكَ الرّبِّ ظَهرَ للرعاةِ بينما كانوا يحرِسونَ خِرافهم لَيلًا، “ومَجْدُ الرَّبِّ أَضَاءَ حَوْلَهُمْ[4]“، وأخبرَهم عن ولادَةِ المُخَلِّص. كما ظَهَرَ مَعَ الْمَلاَكِ ملائكةٌ آخرونَ يُسَبِّحونَ اللهَ. على إثر ذلك، توجّه الرعاةُ إلى حيثُ وُلِدَ يسوع، وَمَجّدوا الله.أمّامَشهدُ غَسلِ الطفل فما هو إلّا تأكيدٌ على تَجَسُّدِ الرّبّ. فَصَيرورَةُ الله إنسانًا قد أَخرجَتنا مِنَ الظلمةِ إلى النُّور.

نرى أيضًا في أيقونةِ ميلادِ الرّبِّ يسوع أنَّ يوسفَ خطيبَ مريم كان شَيخًا جَليلًا جالِسًا في حَيرةٍ مِن أمرِه. وإذا سألنا هنا َأَينَ هو النورُ في ذلك؟ يكون الجواب: النورُ موجودٌ في قَلبِ يوسفَ النقيّ. الذي، رغم أنّهلم يَفهم منذُ البِدايةِ أنَّ حَبَلَ مريمَ العذراءَ هوَ بالروح القدس، لم يَلجأ إلى الهيكل طالبًا تطبيقَ الشريعة، التي بها يحكمون عليها بفعلها الزنى، لا سمح الله، فتُرجَمَ حتّى الموت. فيوسف دَخلَ في صَمتٍ عميق. هذا استباق للعهد الجديد. حينئذٍ أَرسَلَ اللهُ إليه ملاكًا في الحُلُمِ فأبطَلَ حَيرَتَه[5]. عِندها لم يَستيقظ مِن نومه كعادته، بل دخلَ يومَ العهدِ الجديدِ بنورِ الرّبِّ القدّوس.

ومَجيءُ المجوس أيضًا لَهُوَ حَدَثٌ بَهيٌّ بِكلِّ ما للكلمة مِن مِعنى. لقد اتّبعوا النجمَ الإلهيّ، اتَّبعوا نورَه مُتَوَطِّئ ينَكلَّ ظلامٍ ليسجدوا للنور الحقيقيّ الذي أنار، ليس فقط مَسيرةَ سفرِهِم مِنَ المشرقِ إلى بيتَ لحم، بل حياتَهم كُلَّها.

أمّا في وَسطِ الأيقونةِ فنرى يسوعَ “النُّور والحياة” مع والدتِه، وخلفهما المَغارة المُظلِمَة التي تُشير بِمعناها إلى القَبرِ المُظلِم الذي سَينبعثُ مِنُه نورُ القيامة، وقيامتُنا معه مِن ظلمة الموت. الربُّ ملفوفٌ في الأقمطَةِ، التي سنراها لاحقًا في القَبر فارغِةً بعد قِيامته. فَنورُ القِيامَةِ يَشعُّ منذُ اللحظةِ الأولى. هذا هُوَ الحَدَث!

كما نرى أيضًا أنّ مريم قد رُسِمَتْ على شكلِ حَبَّةِ القمح، كيف لا وهي أمُّ الحياة.

الحيوانان المُحيطان بيسوع قد ذُكِرا عِندَ النَبيَّين حبقوق وإشعياء. فالأوّلُ يقول: سوف تُعرف بين حيوانين[6] (كائنين). والآخرُ يُعلِنُ: “اَلثَّوْرُ يَعْرِفُ قَانِيَهُ وَالْحِمَارُ مِعْلَفَ صَاحِبِهِ، أَمَّا إِسْرَائِيلُ فَلاَ يَعْرِفُ. شَعْبِي لاَ يَفْهَمُ[7]“.

آهٍ كَم قاسية هذه الآية!إنّها لَدينونَة رهيبة لنا.نَجِّنا يا ربُّ حتّى لا نُحسَبَ من عِدادِ هذا الشعب الغليظ الفَهم. فإذا كانت الحيوانات قد ارتفعت، أفَنَسقُط نحن!؟.

ختامًا، ما أَجملَ هذه الآية: “الشَّعْبُ الْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا، وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وَظِلاَلِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ[8]“. هذا ما تَنَبَّأَ بِه إِشعياءُ النبيُّ وَأَكّدَهُ مَتّى الإنجيليّ.

اليوم تَضَعُ أيقونةُ عيدِ الميلادِ أمامَنا هذا النورَ الذي نَزَلَ إِلينا مِن السَّماء لِيتَّحِدَ بِنا، فما علينا إلّا أن نتواضَعَ كما تواضَعَ الربُّ لنُشِعَّ بنورِه الإلهيّ. في هذا السياقِ أتى كلامُ القِدّيس يوحنّا الذهبيّ الفَم:” مَن يرتفع بِفكرِه مُتشامخًا فَوقَ البَشر، يُوجد مُنحَطًا دونَ الخليقة غير العاقلة (الحيوانات)”.

إلى الرّبِّ نَطلُب.

الأب أثناسيوس    

 

[1]. كان يعيّد للميلاد في ٦ كانون الثانيّ مع عيد الظهور الإلهيّ.  وما زالت الكنيسة الأرمنيّة تحافظ على هذا التاريخ للتعييد. قد حُدِّدَ يوم ٦ك٢ أيضًا عيدًا مسيحيًّا ليَحُلَّ مكانَ عيدٍ وثنيٍّ.  اتبعت الكنيسة هذا الأمر لتُظهِرَ الإلهَ الحقيقي.
[2]. إسم يسوع يعني”الله خَلَّصَ/ يُخَلِّص”، ومؤلّف من: “يهوه”أي الله/ الكائن و”يَشَع” فعل يُخَلِّصُ.
[3]. “إِلَى أَنْنَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ الإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ابْنِ اللهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِل. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ.” (أفسس٤: ١٣).
[4]. لوقا ٩:٢
[5]. “الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُس”.(متى ٢٠:١).
[6].حبقوق ٢:٣ – الترجمة السبعينيّة.
[7]. إشعياء ٣:١
[8]. إشعياء ٢:٩ و متّى ١٦:٤

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.