لبنان… منذ ما قبل العدم

في الُلغَةِ الآرامِيَّةِ-السُريانِيَّةِ، لُغَة المَسيح، إسمُ لبنانَ الأصيلِ: “ليبنون” أيّ قَلبُ اللهِ. وَفي لُغَةِ النَبيِّ، العَرَبِيَّةِ، “لُب-أنان” الَتي مِنها جَذرُ لبنانَ، تَتَقَصَّدُ المِعنى ذاتَهُ.

والقَلبُ، في المَسيحِيَّةِ والإسلامِ، لَيسَ مَصدَرَ العاطِفَةِ فَحَسبَ إنَّما مَنبَعَ الإدراكِ، مَبَعثَ العَقلِ. فَلا ثُنائِيَّةَ تَباعُدٍ، وَلا إزدِواجِيَّةَ تَناقُضٍ، بَل وِحدَةٌ لَصيقَةٌ.

قُل: هيَ وِحدَةٌ مُنذُ ما قَبلَ العَدَمِ، الَذي مِنهُ وَفيهِ خَلَقَ اللهُ ما يُرى وَما لا يُرى. فيها، إرتَبَطَ اللهُ-اللامُتناهيَ بِلُبنانَ-المُتَناهيَ. وإن فَضَّلتَ عِبارَةَ اللاشَيءَ على العَدَمِ، ما بَدَّلتَ بأمرٍ مِن هَذِهِ الوِحدَةِ القائِمَةِ بَينَ الكائِنِ الأوحَدِ والكَيانِ الُلبنانيِّ، والمُنَزَّهَةِ عَنِ البُهتانِ. فَفي بُلُوغِ مَدارِكِها يُبانُ ما في بَدئِها، السابِقِ البَدءِ، مِن حَقيقَةِ جَوهَرٍ: اللهُ لَيسَ مُجَرَّدَ حُضورٍ خَلاصيٍّ وَسَنَدٍ فَحَسبَ بَل هوَ الوجودُ بالمُطلَقِ، ولبنانُ خَلقُ تَجَلِّيهِ الَذي لا يُفهَمُ إلَّا مِن هُدى هَذا المُنطَلَقِ.

كُلُّ ما هوَ خَليقَةٌ لاحِقَةٌ مِنَ العَدَمِ، صُنعُ كَلِمَةِ اللهِ، يَطويها كالرِداءِ وَتَبلى كالثَوبِ، واللهُ هوَ هوَ وَسُنونُهُ لا تَفنى. أمَّا لبنانُ السابِقُ العَدَمِ لأنَّهُ قَلبُهُ أيّ عَقلُهُ وَنواةُ عِظَمِ كَلِمَتِهِ، فَعَهدُهُ الأبَديُّ مَعَ الخَليقَةِ. وأيُّ تَمَلُّصٍ لِلخَليقَةِ مِن هَذا العَهدِ إنَّما يَحمِلُ المأساوِيَّةَ الى الإنسانِيَّةِ في ما هيَ مَحدودِيَّةٌ أنطولوجِيَّةٌ لِقَلبٍ وَعَقلٍ، أغلَقَتهُما عَنِ اللهِ وأبعَدَتهُما عَنِ الشَرِكَةِ معه وَفَصَلَتهُما عَنِ الجَوابِ عَلَيهِ في أنطولوجِيَّةٍ زَمَنِيَّةٍ تَنمو في مَعرِفَةِ الخَيرِ والشَرِّ، لِتَسلِكَ دَربَ الأوَّلِ وَتَنبُذَ مَسالِكَ الثانيَ.

 أفي سَطوَةِ تِلكَ المَعصِيَةِ ذُروَةُ التَجَبُّرِ عَلى اللهِ، من قِبَلِ الإنسانِيَّةِ الَتي “أحَبَّت ذاتَها حتَّى إحتِقارِ اللهِ” عَلى ما كَتَبَ أوغُسطينوسَ الفَينيقيُّ-الُلبنانِيُّ في كِتابِهِ “مَدينَةُ اللهِ”، لِتَتَصَيَّرَ إلَهاً مِن دونِهِ… وَفي مواجَهَتِهِ؟ هُنا، في الصَميمِ بَينَ هَذا النُزوعِ الى الخَطيئَةِ أيَ الى مَسؤولِيَّةِ إقتِرافِ الشَرِّ بِطواعِيَّةِ التَمَرُّدِ، وَوَعي التَوقِ الى النِعمَةِ-لبنانَ، يَنتَصِبُ وجوبُ إعتِرافِ الإنسانِيَّةِ المَخلوقَةِ بِهَويَّتِها أيّ بِتَقَبُّلِ ذاتِها مِنَ اللهِ. مِن دونِهِ، هيَ الى المَوتِ، ولبنانُ باقٍ في حَياةِ اللهِ وَمِنها.

ألِأنَّهُ السابِقُ، وَهيَ اللاحِقَةُ؟.

أكثر!.

لأنَّها غارِقَةُ في “الإنسانِ ذِئبُ الإنسانِ” (مِن أثينا وَروما الى هوبس)، وَ”العُنفِ” (مِنَ الإسكَندَرِ الى هيغيل) وَ”صِراعِ الطَبقاتِ” (مِنَ الأكاديِّ سَرجونَ الى ماركس)، وَ”مَوتِ اللهِ” (مِنَ السَنهِدريمِ الى نيتشيه) وَ”جُهَنَّهمُ هُمُ الآخَرونَ” (مِن حَمورابيَ وَفِرعونَ الى سارتر)…، لبنانً غالِبٌ بأمانَتِهِ لِجَوهَرِ وجودِهِ مُذ كانَ، مَشروعاً للهِ وَقَد أشبَهَهُ في كُلِّ شَيءٍ.

التَناغُمُ

أجَل! قَضِيَّةُ لبنانَ الكيانِيَّةُ، قَبلَ أيِّ أمرٍ، أنترُبولوجيَّةٌ، ميتافيزيقِيَّةٌ، إيمانِيَّةٌ، إذ هوَ أبعَدُ مِن تَحَدٍّ للإنسانِيَّةِ والخَليقَةَ مَعاُ، بَل عَثَرَةٌ لِمَحدودِيَّتِهِما المٌجَرَّدَةِ والوِجدانِيَّةِ، المُنهَكَةِ بِتَشَتُّتِهِما في ضَنى النُكرانِ، والمُشَوَّهَةِ بِتَبَحُّرِهِما بظَلامِيَّتِهِ.

أفي حَقيقَتِهِ، هوَ المُتَناهيَ في التَأنسُنِ، ذُرى تأكيدِ وجودِ اللهِ وَحُضورِهِ في عَوالِمَ الإنسانِيَّةِ والخَليقَةِ؟

ألا إعتَرِف أنَّهُ المُرشِدَ الى فاعِلِيَّةِ النِعمَةِ-الخَيرِ، أيَ نَقيضَ ما تَبغيهِ اليوتوبياتُ الَتي تَستَكفيَ في مُخادَعَةِ الشَرِّ والإيديولوجيَّاتُ الَتي تَستَكبِرُ في مُقارَعَتِهِ.

وَإعتَرِف أنَّهُ القَويمُ في فائِقاتِ الرُسوخِ، الذي بِهِ يَتَجاوَزُهُما وَيَنتَصِرُ عَلَيهما، وَقَد إستَمَدَّهُ إلتِزامَ هَوِيَّةٍ مِنَ اللامُتَناهيَ في الألوهَةِ.

أجَل! بِهَذا التَناغُمِ الَذي فيهِ، يَغدو اللاشَيءُ الذي كانَ قَبلَه هوَ كُلُّ شَيءٍ، والعَدَمُ الذي كانَ قَبلَهُ هوَ مَناقبِيَّةُ واقِعٍ خاصٍّ في واقِعِيَّةٍ كَونِيَّةٍ.

د. ناجي م. قزيلي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.