لبنان: جذوة الصيرورة

لَيسَ مَوجوداً وَطَنٌ مِن كَينونَتِهِ في اللهِ-الخالِقِ، الكائِنِ الأعلى الَذي أفاضَ فيهِ خَصائِصَهُ، صارَ كياناً يُؤَلِّفُ وِحدَةً إلَّا لبنانَ. هوَ البِكرُ! بَلِ الأوحَدُ، مِن حَيثُ أنَّهُ صارَ، فَلا يَجِدُ نَفسَهُ إلَّا في هَذِهِ المُفارَقَةِ. فَهوَ لَيسَ مَكرُمَةً أو إصطِناعاً مِن أحَدٍ، وَلا جِزءاً إنفَصَلَ مِن آخَرٍ.

هَذِهَ الصَيرورَةُ أكسَبَتهُ هُوِيَّةً تألَّقَت جامِعَةً لِغَيرِيَّةِ اللهِ المُتَسامِيَةِ عَلى الزَمانِ، بِكِيانِيَّةٍ مُتَسامِيَةٍ في مَكانٍ.

أهيَ كَمالُ وجودٍ؟ بَل سُنَّةُ الحُرِيَّةِ المُتَحَقِّقَةِ بِجَسدانِيَّةٍ تَبَدَّت مِن حَواضِرَ صورَ وَصَيدا وَبيريتَ وَبيبلوسَ…، الَتي أطلَقَت، في ذُروَةِ تَسَلُّطَ إمبراطورِيَّاتِ فَوائِضَ القُوَّةِ، مَبدأ الإحتِكامِ الى الشَعبِ في القَرارِ، وأرسَت المَلَكِيَّةَ المُختارَةَ مِنَ الشَعبِ لا المُدَّعيَةَ التألُّهَ، وَكَرَّسَتِ الحَقَّ أساساً لِلحُكمِ. وَتَكامَلَت، حَداثَةً، مَعَ مُعاهَدَةِ البَطريَركَ يوحَنَّا مَخلوف والأميرَ فَخر الدينِ الثاني الَتي وَطَّدَت جُغرافِيَّةَ الكَيانِ، وصولاً الى عَريضَةِ البَطرِيَركَ يوسُف حبَيش الى البابِ العالي العُثمانِيّ اَتي رَكَّزَت سِياسيَّتَهُ مِن خِلالِ “تَعيِّينِ حاكِمٍ على جَبَلِ لبنانَ وأنطيليبانَ، وإيجادِ مَجلِسٍ مُنتَخَبٍ مِنَ الشَعبِ لإدارَةِ الأحوالِ”.

وَمِنها إستِشراسُ البَطرِيَرك الياس الحويِّك، “العامِلِ بإسمِ سُكَّانِ المُدُنِ والأريافِ الُلبنانِيَّةِ، أو الَتي تُطالِبُ بإنضِمامِها الى لبنانَ، مِن دونِ تَميِّيزٍ بَينَ الأديانِ والطَوائِفَ، الَتي كَلَّفَتهُ بِحَسَبِ الأُصولِ”، في مُطالَبَتِهِ العالَمَ بِتَكريسِ حَقِّ هَذِهِ الخُصوصِيَّةِ الُلبنانِيَّةِ، عَبرَ تأكيدِهِ أنَّ الُلبنانِيِّينَ شَكَّلوا “دَوماً كَياناً قَومِيَّاً مُمَيَّزاً عَنِ التَجَمُّعاتِ المُجاوِرَةِ، بالُّلغَةِ والعاداتِ والتَشابُهاتِ الفِكرِيَّةِ… وإستقلالَ لبنانَ مُرتَكِزٌ عَلى تَنظيمٍ سياسِيٍّ ثُمَّ بَرلُمانيٍّ… وَفي تاريخِ عِشرينَ أيَّارَ 1919 أعلَنَ البَرلُمانُ الُلبنانِيُّ، الَذي إنتَخَبَهُ الشَعبُ بالإجماعِ، إستِقلالَ لبنانَ”.

العُبورُ مِنَ المُطلَقِ الى الواقِعِ

في هَذِهِ المُزاوَجَةِ لأَزَلِيَّةِ المُطلَقِ بِزَمَنِيَّةِ الواقِعِ، الَتي فيها سِرُّ تَجَسُّدٍ مُتَّحِدٍ بِسِرِّ القيامَةِ، تَحَقُّقُ مَعرِفَةٍ في الذاتِيَّةِ الُلبنانِيَّةِ الفَريدَةِ. كأنِّي بِها تأكيدُ أنَّ لبنانَ-المُطلَقَ لا يَكتَمِلُ إلَّا في لبنانَ-الواقِعَ، فَلا يُفهَمُ هَذا الُلبنانُ الَذي بِهِ يؤمَنُ، إلَّا مِن خِلالِ هَذا الكَشفِ المُحَقَّقِ في لَحظَةِ تاريخٍ تَدَفَّقَت مِن جُغرافيا.

هذا الكَشفُ الَذي في حِوارٍ، وَلَيسَ عُبوراً تَجَمَّدَ في إطارٍ، مُربِكٌ لِلَغوِ الَذي يَعتَبِرُ أن لا مَكانَ لِلمُطلَقِ في الواقِعِ.

لَكِنَّ ثَباتَ لبنانَ هوَ في دَفقِ مِلءِ صَيرورَتِهِ: هوَ الصَيرورَةُ وَهوَ جَذوَةُ هَذِهِ الصَيرورَةِ، أيّ شُعلَةُ التَوَهُّجِ المُمتَلِئَةِ نوراً يَدحَرُ الظُلُماتِ مَهما تَجَبَّرَت في إبتِداعِ تَشويهِهِ وَتَلاشيهِ وَحَجبِهِ. هوَ الوَعدُ والخَلاصُ. هوَ السِرُّ والإتِّضاحُ. هوَ الحَدُّ والإفصاحُ.

أجَل! يَستَحيلُ فَصلُ المُطلَقِ-لبنانَ عَنِ الواقِعِ-لبنانَ. كِلاهُما واحِدٌ في الكَيانِ-لبنانَ. هوَ الَذي مِنَ القُدُّوسِ وَفيهِ جَوهَرُهُ، هوَ هوَ مُتَناوَلُ العَقلِ. وَكَمالِيَّتُهُ في العُبورِ: “مِن”-“الى”، حَيثُ بِفَضلِ إندِماجِ أزَلِيَّتِهِ في الزَمَنِ يَبزُغُ حَيِّزُ بِدايَةِ الأوطانِ الإنسانِيَّةِ وَنِهايَتُها في الواقِعِ الدُنيَويِّ… بَينَما هوَ لا نِهايَةَ لَهُ.

لا نِهايَةَ لِلبنانَ، قُلتُ؟ بالتأكِيدِ. فَهوَ لَيسَ تَوقاً الى أبَدٍ، بَل صَيرورَةٌ تَحَقَّقَت: مِنَ الماضي الى الحاضِرِ حَيثُ إتِّحادُ القُدُسيِّ بالزَمَنيِّ جُذورٌ. وَمِنهُما الى مُستَقبَلِ الإتِّصالِ والتَواصُلِ الدائِمِ مَعَ اللهِ… حَيثُ تَجَلِّيَ اللهِ في لبنانَ وَتَجَلِّيَ لبنانَ في اللهِ، في تَعبيرٍ مُتَناهٍ قَريبٍ وَنِهائيٍّ، كَينونَةُ الأبَدِ الَتي لا إنفِصامَ فيها وَلا تَفَكُّكَ وَلا إنحِلالَ.

هوَذا لبنانُ في حَصرِيَّتِهِ فُلكُ الخَليقَةِ وَكياناتِها، وَمِن صَيرورَتِهِ وَفيها وِحدَةُ ماهِيَّتِها.

هوَ الكَينونَةُ وَقُوَّةُ الفِعلِ.

د. ناجي م. قزيلي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.