لبنان القلق الروحي

يَمنَحُ لبنانُ قَلَقاً روحِيًّا هو الغِنى. حَسبُهُ، وَهو في إكتِمالِ غَزارَةٍ وَصَفاءِ إستِدلالٍ وَوِفرَةِ إجالَةٍ، أَنَّهُ يَقودُ مِنَ البُعدِ الزَمَنيِّ الى الإطارِ الأبِديِّ حَيثُ الهُداةُ في الحَقيقَةِ.

وَلَيسَ إلَّا لبنانُ مَن يُوَفِّرُ تِلكَ النِعمَةِ: فَفيما ذَهَبَتِ الأُمَمُ الى تَكريسِ السياسَةِ وَحدَها إحتِفالاً، وَتَهالُكاً عَلَيهِ، عَسى المُتُسَكِّعَ وَراءَ الضَلالِ يَتَمَطَّى الى شَفَقَةٍ، أكَّد لبنانُ، مُذ كانَ، أن لا بِناءَ عَلى رِمالِ المُساوَماتِ والمُخادَعاتِ، وَلا تَلَمُّساً لِلحَقيقَةِ في إيغالِ المَعصياتِ.

جُموحُ لبنانَ أن لا أفُقَ في الرَغوِ الَذي يُسمِعُ ما يُرادُ أن يُسمَعَ، وَلا تَعاونَ مَعَ الإثمِ.

هو القَلَقُ الروحِيُّ، قُلتُ؟ أضِف أَنَّهُ العَيشُ في مألَفَةِ الأعماقِ.

هو مُذ كانَ لبنانُ، قُلتُ؟ أضِف أنَّهُ ما شاءَ إلَّا أن يَكونَ إحتِفاءً بِذا الإنتِماءِ المُنسَكِبِ مِن شَراكَةِ أحلامٍ لا مِن إتِّحادِ قِيَمٍ فَحَسبَ، وَقَد تَوَلّى تَغليبَ الروحِ عَلى الهَوى، وآثَرَ عِصيانَ النَفسِ لِرِضى هِدايَةِ الروحِ. في هَذا الكَدِّ، غَلَبَتُهُ عَلى السياسَةِ، وَرَيعُها: إشتِهاءُ التَمَلُّكِ بِمُغالَبَةٍ تَتَكَسَّبُ لَذائِذَ حُكمٍ، وإصطِلاحُ تَكَسُّبٍ يَتَهَدهَدُ عَلى كُرسيِّ حُكمٍ.

وَما كَينونَتُهُ؟ زَهو بُطولَةٍ لا رَيبَةَ فيها.

وَما قَلَقُهُ الروحِيُّ؟ مَلَكَةُ تَصَوُّفٍ لا إنكِسارَ فيها.

في هَذِهِ الثُنائِيَّةِ دَليلُ لبنانَ لِذاتِهِ وَعَن ذاتِهِ… فالقَلَقُ الروحيُّ لا يُسَطِّرُ إلَّا حَقَّاً وَخَيراً، هُما صِنوا الجَمالِ والمَعرِفَةِ. كَذا تُفهَمُ حَياةُ لبنانَ، وإن كانَ سُلُوكُها عَبرَ مَوتِهِ.

وَأُولى مَن أدرَكَتها المَلِكَةُ-القائِدَةُ-إليسا، التي مِن صورَ الهائِلَةِ.

كانَ ذَلِكَ في العَامِ ٨١٤ قَبلَ الميلادِ.

في لَهيبِ الحُرِيَّةِ

ها بيغماليون يَستَفرِدُ بالعَرشِ بَعدَ وَفاةِ والِدِهِ المَلِكَ مَتان، الَذي أوصاهُ بِتَقاسُمِ المُلكِ مَعَ إليسا شَقيقَتِهِ التي أبَتِ الخُضوعَ لِلخَوفِ مِن تَهديدِهِ لَها. وَبَعدَما قَتَلَ زَوجَها الكاهِنَ زيكار-بَعلُ، أبحَرَت مِن صورَ مَعَ وجَهاءِ المَدينَةِ وَكَهَنَتِها، الى أرضٍ جَديدَةٍ، تارِكَةً المُتَسَلِّطَ وَحيداً لِكُرسيهِ.

وَما أن وَصَلَت الى سَواحِلَ غَربِ البَحرِ المُتَوَّسِطِ، فاوضَت المَلِكَ المَحَليَّ هيرباس لَلحُصولِ على أرضٍ لإنشاءِ مَدينَةٍ عَلَيها، فَعَرَض عَلَيها ما يُعادِلُ تَغطِيَةَ جِلدِ ثَورٍ. وافَقَت، فأمَرَت بِتَقطيعِ الجِلدِ شَرائِحَ، وإحاطَةِ هَضَبَةٍ بِها. وَعَلَيها أسَّسَتِ قَرطاجَةَ (مِنَ الفينيقيَّةِ-الُلبنانِيَّةِ “قَرْتْ حَدَشْتْ”، المَدينَةُ الجَديدَةُ)، التي غَدَت بإدارَتِها لَها مِن خِلالِ هَيئَةِ “كِبارِ القُضاةِ”، إمبراطورِيَّةً إمتَدَّت مِن تِلكَ السَواحِلَ الى المُحيطِ الأطلَسيِّ، غامِرَةً جُزُرَ شَرقِ المُتَوَسِّطِ. وَسَتَصِلُ جُيوشُها يَوماً، بَعدَ عُبورِ جِبالِ الألبِ، لِمُحاصَرَةِ روما.

وَلاحَقَها إجرامُ الطَمَعِ السياسيِّ، وإذ بِهيرباس يَصطَلِحُ تَمَلُّكَها زَوجَةً أو يُدَمِّرُ المَدينَةَ. لَكِنَّ إليسا رَفَضَت، مِن أجلِ الحِفاظِ على حُرِيَّةِ أبناءِ شَعبِها، وإخلاصاً لِزَوجِها الشَهيدِ. فَبَنَت مِحرَقَةً ضَخمَةً وَطَعَنَت قَلبَها بالسَيفِ، قَبلَ أن تَرميَ نَفسَها بِها لِيَلتَهِمَها الَلهيبُ المُقَدَّسُ.

وَما مِعنى الحُرِيَّةُ حَقَّاً؟ إذ الإيمانُ جَوهَرُ الرَجاءِ، فَهيَ جَوهَرُ الأبَدِ. وَمَن يَرفُضُها، إنَّما يَبغيَ الحاضِرَ لا الأَبَدَ. الحاضِرُ سأمٌ. الأَبَدُ إدراكُ اللامُتَناهِيَ.

فيهِ، لبنانُ حامِلُ القَلَقِ الروحِيِّ لِلعالَمِ، الغائِصُ في أعماقِ تَلاشي الزَمَنِ، يَلقى الفِردَوسَ المَفقودَ، بَعدَما أبادَ الَلعنَةَ. هو الفِداءُ الَذي يَعبُرُ مَسالِكَ الظُلُماتِ، وَفي يَدِهِ ذاتَهُ. بِها يَغلِبُ مَجاهِلَ اللاعَقلِ وَجَحيمَ اللاحُرِيَّةِ. بِها يَغلِبُ الشَرَّ المَنظورَ بِحَقيقَتِهِ اللامَنظورَةِ.

أمَلَكوتُ لبنانَ هَذا العُبورُ؟ قُل: هوَذا المَعقولُ-العَطِيَّةُ الى الحَقيقَةِ-المُنتَهى… بِهِما تأكيدُ أنَّ الإنسانَ لا يُفتَدى أبَداً مِن خارِجٍ!.

د. ناجي م. قزيلي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.