لبنان-الدينونة

الحاضِرُ تَكرارُ المَواضيَ. هَكَذا يَشاؤهُ المُدانونَ مِن أنفُسِهِم، غَيرُ الآبِهينَ.

كانَت تِلكَ المَواضيَ في أواخِرِ القَرنِ الحاديَ عَشَرَ، إذ إقتَحَمَ الصَليبيُّونَ الشَرقَ لِتَحريرِ المُقَدَّساتِ المَسيحِيَّةِ… وَقَد إنقَضَت 467 سَنَةً على بُروزِ الإسلامِ دَولَةً.

حينَها، الشَرقُ مُشَلَّعٌ بَينَ خِلافَةٍ عَباسَيَّةٍ مُندَحِرَةٍ، وَدوَيلَةٍ فاطِمِيَّةٍ مُتَبَعثِرَةٍ مَذهَبِيَّات مُتناحِرَةٍ، وَسُلطَة أتراكٍ وَتُركمانَ سُلجوقِيَّةٍ مُتَفلِّتَةٍ، فيما المَسيحِيُّونَ بِدَعٌ وَطوائِفَ مُتقابِلَةٍ في بَقايا بيزَنطيا العاجزَةِ عَن حِمايَةِ نَفسِها.

أمَّا الغَربُ، فَمُنتَظِمٌ إماراتَ إقطاعِيَّةٍ بَطبَقاتِها العَسكَرِيَّةِ المُستَوعِبَةِ شُعوبَها، وَتُجَّارِها الغارِقينَ بِفواحِشَ رَخائِها، وَمُقَسَّمٌ بَينَ سُلطَتَي البابا في روما-العاصِمَةِ الأولى والإمبراطورِ في تِلكَ البيزَنطيا.

وَكانَ العامُ 1095.

وَكانَت إستِغاثَةُ ألكسيس الأوَّل كومين الإمبراطورَ، بالبابا اوربان الثاني لِموَاجَهَةِ خَطَرِ سُقوطِ القُسطَنطِينيَّةِ-العاصِمَةِ الثانِيَةِ.

فإنتَظَمَت حَملَةٌ أولى، بِحَماسِ فُرسانَ مؤمِنينَ، وَمُجرِمينَ تائِبينَ، وَذَوي مَصالِحَ…

وِمِن أوروبا الى المَشرِقِ، إنتَقَلَ العالَمُ مِن العَهدِ القَديمِ الفارِضِ نَفسَهُ تَوَسُّعاً، الى العَهدِ الجَديدِ المُضيفِ الى التَوَسُّعِ البُعدَ الدينيَّ: الحِجَّ مِن وإلى.

وَعَلَت أسوارٌ تَماهَت مَعَ المَعابِدَ بِطُقوسَ ذَبائِحِيَّةٍ.

وَها، بإسمِ الرَبِّ وبإسمِ اللهِ، الحَجَرُ يُستَعادُ هَيكَلاً، والباعَةُ في داخِلِهِ. بأيِّ سُلطَةٍ؟ تِلكَ التي تَقودُ الى المُحاكَمَةِ بِتُهمَةِ تَدميرِ الهَيكَلِ والقَضاءِ عَلَيهِ. فَتَتالَتِ الحَمَلاتُ: 1097، 1147، 1190، 1202، 1217، 1228، 1248، 1270، 1272، وَإنحَرَفَت عَن مَسارِها الإيمانِيِّ، فأرسَت مَمالِكَ وإماراتٍ بَينَ الشَمالِ (إنطاكيةُ) والجَنوبِ (أورشَليمُ-القُدسُ). وإستَولَدَت خِلافاتِ المُلوكِ والأُمَراءِ المُستَحدَثينَ، وإستَحضَرَت قَرصَناتٍ وَتَصحيحاتٍ وَرَدَّةً إسلاميَّة… فـ”إتِّفاقاتِ صُلحٍ” وَتَقاسُمٍ مِن عَسقَلانَ الى يافا، وإنقِساماتٍ داخِلَ الصِليبيِّينَ والمُسلِمينَ.

المُدرِكُ طَهارَتَهُ

الأرضُ المُقَدَّسَةُ مُستَرضاةٌ إستِسلاماً.

وَحدُهُ لبنانُ، مِن عرقَةَ شَمالِ عَكَّارَ الى مَشارِفَ القُدسِ-أورشَليمَ فَقَيصَرِيَّةِ فيليبُّسَ، بَيتُ إيلَ، بَيتُ اللهِ-الرَبِّ، سَيَتآمَرونَ عَلَيهِ، مِن غَربٍ وَشَرقٍ.

لِماذا؟ لأنَّهُ الهَيكَلُ. وَما بُنِيَ إلَّا مِن أجلِ الإيمانِ بالقِيامَةِ. هُمُ، مَن جَعَلوا مِنهُ لا شَهادَةُ بَل خَطيئَةً، إعتَقَدوا أنَّهُمُ بِتَدميرِهِ إنَّما يَقضونَ عَلى خَوفِهِمِ مِنَ الرَبِّ-اللهِ بِسَبَبِ إرتِكاباتِهِمِ في الأرضِ المَدعُوَّةِ مُقَدَّسَةً.

لبنانُ يُدرِكُ ذَلِكَ، هوَ المُدرِكُ أنَّ ساعَتَهُ، أيّ مَوتَهُ، عُبورٌ الى القِيامَةِ، أيّ الى العَودَةِ للهِ-الرَبِّ، بالحَقِّ لا بالسَيفِ. أجَلَ! هوَ موَضِعُ الدَينونَةِ الَتي عَلى مُستَوى تَعزِيَةِ العالَمِ. في تِلكَ الحَميمِيَّةِ، الَتي بِها يُطَهِّرُ لبنانُ العالَمَ، شَرقاً وَغَرباً، بِذاتِهِ، يَصيرُ العالَمُ الغارِقُ في آثامِهِ جِزءاً مِنهُ، وَهوَ يُظِلِّلُ ساعاتِهِ.

هوَ قُدسُ أقداسِهِ.

ألَيسَ الرَبُّ-اللهُ تَعزِيَتَهُ، بِوَعدِهِ لِمَن دَنَّسَهُ، بِلِسانِ حَبقوق النَبيِّ: “جَورُكَ عَلى لبنانَ يَغمُرُكَ، بَل حَتَّى هَلاكُ بَهائِمِهِ يُرعِبُكَ. أما سَفَكتَ دِماءَ البَشَرِ وَظَلَمتَ أهلَ الأرضِ وَمُدُنَها جَميعاً؟” (حَبقوق 2 ̸ 17).

هوَ حُرمَةُ الهُدى لِجَميعِ الأُمَمِ.

وَبِالنَظَرِ الى وَحدانِيَّةِ اللهِ-الربِّ لِجَميعِ الأُمَمِ، لَيسَ هُناكَ سِواهُ هَيكَلاً.

أجَل! ما مِن أحَدٍ يَستَطيعُ أن يَقِفَ بِوَجهِ ذاكَ القَديمِ وَذاكَ الجَديدِ، وَقَد تَعاقَبا على تآلُفِ الدَنَسِ، لِيُثبِتَ بِوَجهِهِما قَداسَتَهُ، إلَّا لبنان. أيَكونُ مُتَصَرِّفاً بِسُلطَةِ الرَبِّ-اللهِ التي فيهِ؟ الأَكيدُ أنَّهُ لَيسَ بِهارِبٍ الى تَجديفٍ، بِهِ يُغَطِّي على تَجديفِهِما المُشتَرَكِ، بَل هوَ مُصِّرٌ على تأكيدِ أنَّهُ غَيرُ مؤمِنٍ بإولَئِكَ الَذين، مِن غَربٍ أو مِن شَرقٍ، يَرومونَ الحُروبَ وَيَحتَدِمونَها بإسمِ الإيمانِ.

وَهوَ بِمَعرِفَتِهِ بِطِباعِهِمِ البَشَرِيَّةِ، يؤَكِّدُ ألوهِيَّةَ دَينونَتِهِ.

لبنانُ-الدَيَّانُ ظافِرٌ بِحُضورِهِ: هوَ العَهدُ الكامِلُ لِلآتي، رَمزُ حُضورِ اللهِ-الربِّ على البَشَرِ.

د. ناجي م. قزيلي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.