“تطبيع” مع الفراغ وتعيينات “على النار”… من يتحمّل المسؤولية؟

شيئًا فشيئًا، يتراجع ملف الانتخابات الرئاسية في سلّم الاهتمامات، مع تقدّم استحقاقات داهمة لا تقلّ أهمية، بل تزيد “خطورة” وفق بعض المراقبين، وعلى رأسها الشغور المحتمل في حاكمية مصرف لبنان، مع بدء العدّ العكسي لانتهاء ولاية الحاكم الحالي رياض سلامة نهاية الشهر الجاري، فضلاً عن الوضع “الملتهب” جنوبًا، في ضوء الخطوات “الاستفزازية” التي أقدم عليها الجيش الإسرائيلي حول بلدة الغجر، وما ولّدته من ردود فعل على غير صعيد.

وفيما يسود “التأهّب” على خط الاستحقاقين الداهمين الأخيرين، وسط “ترقّب” لعودة الموفد الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت، إن حصلت في موعدها المفترض، لعلّها تحرّك الملف الرئاسي من جديد، عادت سرديّة “التطبيع مع الفراغ” إلى الواجهة، مع تحذير العديد من القوى السياسية، وآخرها “التيار الوطني الحر”، من رغبة البعض في توجيه رسالة مفادها أنّ “حكم البلاد ممكن من دون رئيس يمثل المسيحيين في معادلة الشراكة الدستورية”.

ورغم أنّ تحذير “التيار” الذي ورد في بيان لمجلسه السياسي صدر قبل “خلط الأوراق” في ملف حاكمية مصرف لبنان، مع بيان نواب الحاكم الأربعة الذي دعا الحكومة لتعيين “سلف” لسلامة، تحت طائلة اتخاذ “الإجراء المناسب”، الذي قيل إنّه قد يأخذ شكل “استقالة جماعية”، إلا أنّه وفق العارفين مرتبط به بشكل مباشر، في ظلّ الحديث عن دفع حكومة تصريف الأعال نحو تعيين من هذا النوع، بذريعة أنّ “الضرورات تبيح المحظورات”.

وإذا كان رئيس مجلس النواب نبيه بري عزّز هذا الاعتقاد بالحديث عمّا وصفه بـ”تعيين الضرورة”، تناغمًا ربما مع “تشريع الضرورة”، رغم أنّ حليفه “حزب الله” كان قد أفتى في وقت سابق بأنّ الحكومة لا تمتلك صلاحية تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان، فإنّ أسئلة تُطرَح عن مآلات الإشكال الدستوري القانوني السياسي الجديد، وسيناريوهات الخروج منه بأقلّ الأضرار، لكن أيضًا حول من يتحمّل المسؤولية عن كلّ هذا التأزّم.

في المبدأ، “تتقاطع” معظم القوى المسيحية على رفض فكرة “التطبيع مع الفراغ”، بل التحذير من النوايا المبيتة خلفه، والتي قد تنطوي على “خطورة غير مسبوقة”، لجهة القول إنّ البلاد تستطيع أن تُحكَم من دون رئيس للجمهورية، ما يوحي وكأنّ وجود الرئيس أمر “شكليّ”، لا يقدّم أو يؤخّر، أو بالحدّ الأدنى، أنّ عدم وجوده لا يؤثّر في المعادلة، بدليل أنّ كل شيء يمكن أن يحصل في غيابه، تحت عنوان “تسيير شؤون الناس”.

برأي هذه القوى، يسري هذا الأمر بوضوح على ما تعتبره أداء “مريبًا وربما غير بريء” للحكومة، التي يتّهمها البعض بالقفز فوق كونها أصلاً “حكومة تصريف أعمال”، من خلال اجتماعاتها الدورية التي ما عادت محصورة أبدًا بالبنود “الملحّة والطارئة”، فكيف الحريّ إذا وضعت التعيينات على “أجندتها”، لتشمل مراكز حسّاسة وأساسيّة، لطالما اعتُبِرت من “عدّة الشغل” الخاصة برئيس الجمهورية، خصوصًا في المواقع المسيحية.

وفيما تشير أوساط هذه القوى إلى أنّ تعيين حاكم لمصرف لبنان بهذا المعنى لن يكون سوى “مقدّمة” لتعيين قائد للجيش، مع انتهاء ولاية العماد جوزيف عون مطلع العام المقبل، تلفت إلى أنّ مثل هذا الأم يشكّل “هرطقة دستورية” بكلّ الأبعاد، علمًا أنّ القوى “المتقاطعة” على رفض التعيينات، تتقاذف كرة المسؤولية فيما بينها إلى حدّ بعيد، خصوصًا أنّ بينها مثلاً من يقرّ بـ”تشريع الضرورة”، الذي ينطلق منه “المطبّعون مع الفراغ” لتعميمه على سائر المؤسسات.

عمومًا، تتّفق القوى الرافضة لـ”التطبيع مع الفراغ” على أنّ التذرّع بالضرورة ليس موفّقًا، ولا سيما أنّ القوى “المستقتلة” على تسيير شؤون الناس، كما تدّعي، هي التي تعطّل استحقاق الانتخابات الرئاسية، وتريد “التطبيع مع الفراغ” بكلّ بساطة، رافعة شعار “إما مرشحي أو الفراغ الأبدي”، في منطق يتعارض مع رأي آخر، يقوم على سؤال بسيط: هل يجوز ترك البلد، ومعه الناس، رهينة العجز عن التوافق على انتخاب رئيس للجمهورية؟.

بالنسبة إلى أصحاب هذا الرأي، ثمّة ضرورات تستوجب مقاربة مختلفة، تتحلّى بالحدّ الأدنى من المسؤولية، وتستشهد في هذا السياق بالشغور المحتمل في حاكمية مصرف لبنان، فإذا كان صحيحًا أنّ النائب الأول للحاكم يستطيع “تصريف الأعمال”، لكن ماذا لو رفض الأخير ذلك، كما لوّح أصلاً؟ وماذا لو حالت ظروف قاهرة ما دون توليه للحاكمية، في حين أنّ الدستور لا يعطي هذه الصلاحية لأحد غيره؟ ما العمل في مثل هذه الحالة؟.

وفيما يؤكد أصحاب هذا الرأي، من أنّ أيّ “فراغ” في حاكمية مصرف لبنان يأخذ البلاد إلى “كارثة اقتصادية” غير مسبوقة، ستفوق خطورته بمئات الأشواط الخطورة الناجمة عن عدم انتخاب رئيس للجمهورية، يشيرون إلى الاستحقاق الآخر الداهم بعد أشهر، والمتعلق بقيادة الجيش، في ظل عدم وجود من يمكن أن “ينوب” عن القائد الحالي، فما الحيلة هنا إذا لم يكن الرئيس قد انتُخِب قبل ذلك الموعد؟ فهل يُترَك الجيش لمصيره؟.

يدرك المنظّرون لضرورة تصدّي الحكومة لمسؤولياتها، ولو على شكل تعيينات في وظائف الفئة الأولى، أنّ الوضع استثنائي وليس سليمًا، لكنّهم يرفضون “المزايدات” الحاصلة على هذا الصعيد، لأنّ الأمر ليس “تطبيعًا مع الفراغ” بقدر ما هو “محاولة صمود” في ظلّ الفراغ، فيما الحلّ بسيط، وهو التفاهم لانتخاب رئيس، تفاهم يبقى “متعذّرًا” طالما أنّ الفريق الآخر يرفض تلقف اليد الممدودة، بل يصرّ على رفض الحوار، فيما سائر الطرق “مسدودة”.

بين “التطبيع مع الفراغ” و”محاولة الصمود في ظل الفراغ”، تبقى النتيجة واحدة: لا حلّ فعليًا وحقيقيًا سوى بانتخاب رئيس للجمهورية، تنتظم معه الحياة الدستورية، ولو بحدّها الأدنى. يقتنع الفريقان المتخاصمان بذلك، لكنّهما لا يترجمان قناعتهما هذه بأفعال ملموسة، ليبقى انتخاب الرئيس “شبه مستحيل”، طالما أنّ الحوار المرهون بشروط وشروط مضادة “متعذّرًا”، ليصبح الجدل حول صلاحيات الحكومة والتعيينات، “تفصيلاً” في حكاية “الانهيار المتسلسل”!.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.