استحقاقات مجمّدة وسط شبح الحرب… عام “الفراغ” يتمدّد في 2024؟!

لعلّ عبارة “عام الفراغ” تصلح لتكون عنوانًا عريضًا لسنة 2023 التي تستعدّ لطيّ الصفحة الأخيرة من رزنامتها “الحافلة” في غضون ساعات، هي التي بدأت بفراغ رئاسي “ورِثته” من العام 2022، وها هي تنتهي على المشهديّة نفسها، من دون تسجيل أيّ “خرق” يُذكَر، على الرغم من تراكم الأزمات، التي جاء الكثير منها “نتيجة” للفراغ الأول، وما خلّفه من “فوضى” سياسية ودستورية، بأتمّ معنى الكلمة.

لكنّ “عام الفراغ” الذي تحوّل معه الاستحقاق الرئاسي، على أهميته وحساسيّته، من “الملف الرقم واحد”، إلى قضية “هامشية”، إن جاز التعبير، خصوصًا بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وانعكاساتها في جنوب لبنان، حيث اشتعلت “جبهة الإسناد” كما صُنّفت، لتُقرَع معها “طبول الحرب” بلا توقّف، فيتجمّد البحث بالرئاسة، ولو أنّ المنطق يتطلّب “العكس” عمليًا، بالنظر إلى مقتضيات “تحصين” الساحة الداخلية.

إلا أنّ “الجمود” الذي أصاب الاستحقاق الرئاسي “سابق” لحرب غزة، ونظيرتها في جنوب لبنان، وسابقٌ للنقاشات حول احتمالات “انزلاق” البلد إلى حربٍ مدمّرة تكاد توازي بحجمها تلك الدائرة في قطاع غزة، أو التي اختبرها اللبنانيون أنفسهم في صيف العام 2006، حيث بقيت المراوحة “القاتلة” عنوانه، على الرغم من كل الوساطات والمبادرات، فضلاً عن الاعتصام المفتوح في مجلس النواب، الذي تحوّل إلى “نكتة”.

وإذا كانت نهاية العام أضحت موعدًا “ثابتًا” سنويًا للمنجّمين الذين يحتلّون الشاشات في ليلة رأس السنة، مطلقين العنان لتوقّعاتهم، أو ما يحلو للبعض وصفها بـ”الإلهام”، قد يكون من المفيد “استشراف” العام الجديد، من باب التحليل السياسي الواقعيّ، فما الذي ينتظر اللبنانيين في العام الجديد؟ هل يكون عامًا آخر من “الفراغ”، الذي يتمدّد من الرئاسة إلى كلّ القطاعات الأخرى؟ ماذا عن سيناريوهات “الحرب” التي يقول البعض إنّ أسهمها ترتفع؟!.

قبل الحديث عن “سيناريوهات” العام الجديد، قد يكون من المفيد التوقف عند “جردة” العام المنصرم بأهمّ محطاته وعناوينه، التي قد تبدو في الظاهر كثيفة، ككثافة الأزمات والقضايا التي ينقسم حولها اللبنانيون عموديًا، لكنها قد تتقاطع في الباطن عند عنوان “الفراغ الرئاسي” المهيمن على كلّ شيء، ولو أنّ الانطباع القائل بأنّ انتخاب رئيس من شأنه أن يفتح باب “الحلّ” لكل الأزمات، ينطوي على “سطحيّة” مُبالَغ بها.

لكنّ استمرار الفراغ طيلة 365 يومًا، إضافة إلى شهرين سابقين من العام المنصرم، لا يعني أنّ الملف لم يشهد محطّات “صعود وهبوط” خلال العام، قبل أن “ينطفئ” بشكل أو بآخر في أشهره الأخيرة، إذ إنّ هذا العام شهد على الانتقال من مرحلة “الغموض غير البنّاء” إلى “الوضوح” في المواقف، ولا سيما بعد تبنّي “حزب الله” ترشيح رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية، بدلاً عن “الورقة البيضاء”، الأمر الذي خلط الكثير من الأوراق “الرئاسية”.

وفيما استمرّ “حزب الله” وحلفاؤه ثابتين على ترشيح فرنجية، وإن تنقّلوا في الاستراتيجية بين “التصلّب في الموقف”، على طريقة “فرنجية أو لا أحد”، والمرونة والليونة بالانفتاح على حوار يفضي إلى التوافق عليه أو على غيره، تنقّلت قوى المعارضة بين عدّة أسماء، من ميشال معوض إلى جهاد أزعور، مرورًا بقائد الجيش العماد جوزيف عون، الذي يعتبره كثيرون “مرشحها الحقيقي”، ليبقى الثابت في مقاربتها هو “الفيتو” في وجه فرنجية.

لكن، بعيدًا عن “بازار” الأسماء، بقي الملف الرئاسي يراوح مكانه، مع سدّ الأبواب أمام كل الوساطات والمبادرات، الداخلية منها على غرار الحوار الذي كان رئيس مجلس النواب نبيه بري ينوي الدعوة إليه، أو الخارجية منها، والتي تمثّلت بالزيارات المتكرّرة للمبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان، والتي يتوقّع أن تتواصل في العام الجديد، رغم الحديث عن انتقال “كرة المبادرة” من الفرنسيين إلى القطريين، تحت لواء مجموعة الدول الخمس.

وعلى هامش الملف الرئاسي المجمّد، كان مصير كلّ الاستحقاقات خلال العام 2023 “على الطريقة اللبنانية”، بين الأمر الواقع، كما حصل في استحقاقي انتهاء ولايتي حاكم مصرف لبنان ومدير عام الأمن العام، أو التمديد، كما حصل في استحقاقي الانتخابات البلدية وانتهاء ولاية قائد الجيش، ليبقى البلد “معلَّقًا” بانتظار الفرج الرئاسي، ولا سيما في ظلّ حكومة مستقيلة، ولو صرّفت الأعمال، ومجلس نيابي مشلول، لو شرّع في ما ندر تحت عنوان الضرورة.

وإذا كان الملف الأمني “تفوّق” على الاستحقاق الرئاسي في الأشهر الأخيرة من العام، من دون أن يكون غائبًا بالضرورة عن فتراته السابقة، بين حادثتي الطيونة والكحالة الشهيرتين، واللتين كادتا تزجّان بالبلد في أتون “مجهول الفتنة”، فإنّ “شبح الحرب” الذي خيّم على الأجواء أخيرًا، يبدو أنّه سيشكّل “العنوان الأول” للعام الجديد، الذي يخشى كثيرون أن يكون “عام الحرب” على وقع التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة ضدّ لبنان.

يقول العارفون إنّ العام الجديد سيشهد “سباقًا مع الزمن” بين احتمالات الحلّ الدبلوماسيّ، الذي ينهي الاشتباكات والمناوشات في الجنوب، وسيناريوهات التصعيد العسكري، ولو أنّها مؤجَّلة برأي البعض لما بعد “هدوء” الحرب في غزة، والتي يرجّح أن تنتقل إلى “مرحلة مغايرة” في الأسابيع القليلة المقبلة، تتكثّف فيها العمليات ضدّ فصائل المقاومة، بعيدًا عن القصف الشامل الذي طبع المرحلتين السابقتين، اللتين اقتصر بنك أهدافهما على المدنيين.

وفق هؤلاء، فعلى الرغم من أنّ الحرب لا تزال بعيدة المدى، وأنّ أيًا من الطرفين المعنيّين، أي “حزب الله” والجيش الإسرائيلي، لا يريدها ولا مصلحة له في الانزلاق إليها، وعلى الرغم من الحراك الإقليمي النشط لتفاديها، إلا أنّ الاحتمال يبقى مطروحًا، طالما أنّ سكان المستوطنات الشمالية يرفضون العودة إليها من دون “حل جذري” ينهي ما يسمّونه “تهديد حزب الله”، وطالما أنّ قواعد الاشتباك التي حكمت العلاقة منذ تموز 2006، تحت لواء القرار 1701، لم تعد قائمة.

وبانتظار “حسم” هذا الملفّ الساخن خلال العام العتيد، يبدو الملف السياسي، ولا سيما في شقّه “الرئاسي”، مؤجّلاً، في ظلّ وجهتي نظر، تتفاءل إحداهما بـ”فرج قريب”، وسط رهان على حراكٍ متوقّعٍ مطلع العام، داخليًا وخارجيًا، فيما تضعه الثانية في إطار “ملء الوقت” ليس إلا، باعتبار أنّ القاصي والداني يدرك أنّ لا انفراج سيحدث قبل انتهاء الحرب على غزة، بل إنّ هناك من يريد “توظيف” نتائج هذه الحرب رئاسيًا، لصالح هذا المرشح أو ذاك.

مع نهاية كلّ عام، يتمنّى اللبنانيون أن يكون العام الآتي “أفضل” من سابقه، وأن يحمل معه كلّ الخير واليمن والبركات، بل الفرج والحلّ لكلّ الأزمات المتراكمة. إلا أنّ الأمنيات تتقلّص عامًا بعد عام، لتقتصر مثلاً اليوم على ألا تقع الحرب في لبنان هذا العام، وأن يحصل حدّ أدنى من الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني، استقرارٌ يبدو صعبًا إذا لم تتوافر الإرادة السياسية الحقيقية، مع ما تشترطه من تغليب للمصلحة الوطنية العليا على الأنانيّات والنكايات الشخصية!.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.