لبنان والناصريّ

سَيُدعى: يَسوعَ الناصِرِيَّ.

أهيَ الناصِرَةُ[1] مَسحَةُ الضابِطِ الكُلِّ مِن زَخمِ الخَلقِ الى الإرتِماءِ في جَسدانِيَّةِ العالَمِ؟ كالرَحَمِ هي، مُهَيَأةٌ لِعِنايَةِ الإنطِلاقِ مِن فَيضِ الأُلوهَةِ الى إستيعاباتِ العَقلانِيَّاتِ الإنسانِيَّةِ.

الناصِرَةُ.

بَلدَةٌ في جَليلِ الأُمَمِ (مَرقُسُ 1/9)، الجَليلُ الفينيقِيُّ-الُلبنانِيُّ، قائِمَةٌ على جَبَلٍ (لوقا 4/29). فيها ظَهَرَ المَلاكُ لِعَذراءَ يُبِشِّرُها، بالُلبنانِيَّةِ-ألآرامِيَّةِ، أنَّها سَتَكونُ أُمَّ الـ”عَمَّانوئِيلَ” أيّ “اللهُ مَعَنا”(مَتَّى 1/23)، المَسيحِ الذي، في تِلكَ البَلدَة، راحَ “يَتَسامى في الحِكمَةِ والقامَةِ والحُظوَةِ عِندَ اللهِ والناسِ.” (لوقا 2/52).

بَلدَةٌ صُغرى لا ذَكَرَها العَهدُ القَديمُ وَلا يوسيفوسُ فلافيوسُ بِن ماتيتياهو، وَلا إستَحضَرَتها حَولِيَّاتُ مِصرَ وبابِلَ؟ أَإِنبِثاقُها مِنَ الإنتِصارِ على الخَطَرِ، في أُولى إشاراتِ القِيَامَةِ؟ فَبَعدَ ميلادِ المَسيحِ، وَقرارِ هيرودُسَ المَلِكِ إهلاكَهُ، “قامَ يوسُفُ، خَطيبُ مَريَمَ وأخَذَ الطِفلَ وَأُمَّهُ لَيلاً الى مِصرَ” (مَتَّى 2/14) حَتَّى وَفاةِ هيرودُسَ، إذ تَراءى لَهُ مَلاكُ الرَبِّ في الحُلُمِ قائِلاً: “قُم فَخُذِ الطِفلَ وأُمَّهُ واذهَبِ إلى أرضِ إسرائِيلَ… فَقامَ وأخَذَ الطِفلَ وأُمَّهُ وَدَخَلَ أرضَ إسرائِيلَ. لَكِنَّهُ سَمِعَ أنَّ أرخِلاوسَ خَلَفَ أباهُ هيرودُسُ على اليَهودِيَّةِ، فَخَشِيَ الذَهابَ إلَيها… وَأتى إلى ناحِيَةِ الجَليلِ. وَجاءَ مَدينَةً يُقالُ لَها الناصِرَةُ فَسَكَنَها” (مَتَّى 2/19-22).

لافِتٌ أنَّ الإنجيلَ رَبَطَ بَينَ الناصِرَةِ والجَليلِ حَدَّ التَوحيدِ، حَيثُ “الجَلِيليُّ” (متَّى 26/69) و”الناصِرِيُّ” (مَرقُسُ 10/47) هُما المَسيحُ نَفسُهُ الذي… بَعدَ قِيَامَتِهِ، سَيُعطي تَلاميذَهُ مَوعِدَ لِقائِهِ في الجَليلِ: “ها هوَذا يَتَقَدَّمُكُمُ إلى الجَليلِ، فَهُناكَ تَرَونَهُ” (مَتَّى 28/7).

لَكِنَّ العَجَبَ مُزدَوِجٌ: فَيُوسُفُ، إذ عادَ بِـ”العَمَّانوئِيلَ” كَسَرَ قَرارَ “مَلاكِ الرَبِّ”، أيِّ الرَبَّ-الآبَ عَينَهُ، وأتى الى “ناحِيَةِ الجَليلِ”. وَمَتَّى، في نَصِّهِ الأصليِّ اليونانيِّ، لَم يورِد إسمَ الناصِرَةِ مُتَحَدِّراً مِن صيغَةِ  “נצרת” العِبرِيَّةِ أيِّ “المُراقِبِ”، بَل مِنَ الجَذرِ الآرامِيِّ-الفينيقِيِّ-الُلبنانِيُّ “nzr” الذي يَعني: “قُدُّوسَ اللهِ، النَذيرَ-المَنذورَ لَهُ”، وِفقَ ما يُنبِئ سِفرُ القُضاةِ: “هَا إِنَّكِ تَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ إبناً، وَلاَ يَعْلُ مُوسَى رَأْسَهُ، لأَنَّ الصَّبِيَّ يَكُونُ نَذِيراً لِلَّهِ مِنَ الْبَطْنِ” (13/5)، وَيورِدُهُ اشِعيا على لِسانِ المُخَلِّصِ: “الرَبُّ مِنَ البَطنِ دَعاني، مِن أحشاءِ أُمِّي ذَكَرَ إسمي، وَجَعَلَ فَمي كَسَيفٍ حادٍّ. في ظِلِّ يَدِهِ خَبَّأني” (اشِعيا، 49/1-2).

دَربُ الإنسانِيَّةِ

هي الناصِرَةُ التي سَيَحمِلُ المَسيحُ إسمَها.

فينيقِيَّةٌ-لُبنانِيَّةٌ. شَمالُها مَملَكَةُ صورَ-الصَخرَةِ، وَهي تابِعَةٌ لَها كَما جَليلُ الأُمَمِ، مُنذُ عَصرِ الحَديدِ الأَوَّلِ والثاني (١٢٠٠–٥٨٧ ق.م.) الشاهِدِ مَولِدَ مَملَكَتَي السامِرَةِ وَيَهوَذا اليَهودِيَّتَينِ وَغِيابَهُما.

“أَمِنَ النَّاصِرَةِ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ؟” (يوحَنَّا 1/46)، سألَ نَثَنَائِيلُ، أحَدَ الإثنَي عَشَرَ، الَذي مِن قانانا الُلبنانِيَّةِ. الجَوابُ هو وَجَدَهُ: “يَا مُعَلِّمُ أَنْتَ إبْنُ اللَّهِ!” (يوحَنَّا 1/49). وَإخِّصاؤهُ، الآتيَ إلَيهِمِ، طَرَدوهُ مِن مَجمَعِها، سَبتَ قَرأ لَهُمُ مِن اشِعيا: “رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، وأَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، وأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ للْحُرِّيَّةِ…”، مُعلِياً فَوقَهُ: الْيَوْمَ تَمَّ هَذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ” (لوقا 4/18-21). وَجَاءُوا بِهِ إِلَى حَافَّةَ الْجَبَلِ “لِيَطْرَحُوهُ إِلَى أَسْفَل” (لوقا 4/29). فَكانَ حُكمُهُ عَلَيهِم: “لَيْسَ نَبِيٌّ مَقْبُولاً فِي وَطَنِهِ” (لوقا 4/24).

لبنانُ وناصِرَةُ-الناصِريِّ، قاعِدَةُ إنتِسابِ الأُلوهَةِ وَعامودُها، وَجَوهَرِيَّةُ النِسبَةِ الإنسانِيَّةِ وَحَقيقَتُها.

         لبنانُ وناصِريُّ-الناصِرَةِ لا يَستَنفِدانِ سِرَّ اللهِ في إلحاحِ الإنسانِ.

بَل قُلّ: الناصِرَةُ-الُلبنانِيَّةُ دَربُ الإنسانِيَّةِ للمَسيحِ، والمَسيحُ الرابي فيها دَربُ الإنسانِ للهِ.

د. ناجي م. قزيلي

 

 [1] رسم مدينة الناصرة أيام السيّد المسيح المرافق للنص للفنان غيدو بوريللي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.