حراك سياسي ودبلوماسيّ مكثّف حول لبنان… ما الذي تغيّر؟!

على وقع استمرار “الإشاعات” حول اقتراب موعد الحرب الواسعة مع لبنان، رغم الأجواء “المعاكسة” التي بدأت تتقدّم في الساعات الماضية، والتي توحي بإمكانيّة التوصل إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة، يتوقَّع أن ينعكس تلقائيًا على الجبهة اللبنانية المشتعلة منذ الثامن من تشرين الأول، يتكثّف الحراك الإقليمي والدوليّ في لبنان، على المستويين الدبلوماسيّ والسياسيّ، بما يَشي بأنّ لبنان عاد إلى سلّم الاهتمامات بصورة أو بأخرى.

فعلى المستوى الدبلوماسي، يلاحَظ “زخم لافت” في زيارات الموفدين الدوليين التي تكثّفت خلال الأيام القليلة الماضية، حيث سُجّلت زيارتان متزامنتان لوزيري خارجية بريطانيا دافيد كاميرون وهنغاريا بيتر سيارتو، في وقت يتوقّع أن يحطّ وزير الخارجية الفرنسي الجديد ستيفان سيجورني مطلع الأسبوع المقبل، وهي زياراتٌ تندرج بمجملها في خانة الدعوة إلى “تهدئة” الوضع على الحدود الجنوبية، ومنع نشوب حربٍ مدمّرة جديدة مع إسرائيل.

لكنّ السياسة لا تبدو غائبة عن الحراك الإقليمي والدولي حول لبنان، بعد تفعيل اللجنة الخماسية المعنيّة بالشأن اللبناني حراكها، وهي التي تضمّ ممثلين عن كل من الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية وقطر ومصر، وكانت “باكورة” عملها المتجدّد اللقاء الذي جمع سفراءها في لبنان مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، في ظلّ ترقّب لاجتماعها الذي يُتوقّع أن يعقد قبل منتصف الشهر الجاري في إحدى العواصم، التي يرجّح أن تكون الرياض.

وإذا كانت أجواء لقاء سفراء “الخماسية” مع بري وُصِفت بـ”الإيجابية”، فيما تصنّف زيارات الموفدين الدوليين المستمرّة بـ”المثمرة”، فإنّ علامات استفهام بالجملة تُطرَح حول مغزى هذا الحراك المكثّف في هذه الفترة، فهل يمكن البناء عليه لإحداث “خرق ما” على مستوى الأزمات المتفاقمة، من الحرب المؤجلة، إلى الرئاسة المجمّدة؟ وما الذي تغيّر عمليًا حتى عاد لبنان إلى سلّم اهتمام دولٍ كانت قد وضعته جانبًا إلى حدّ بعيد؟!.

في المبدأ، يميّز العارفون بين الحراك السياسي في ملفّ رئاسة الجمهورية، الذي أعادت “الخماسية” تحريكه بعد فترة طويلة نسبيًا من الجمود والانكفاء، وبين زيارات الموفدين الأجانب المكثّفة إلى لبنان، والتي تبقى محصورة وفق كلّ المؤشّرات بالملف الأمني، من بوابة الجبهة المشتعلة على الحدود الجنوبية، بموازاة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، واحتمالات انزلاق الوضع في أيّ لحظة إلى حربٍ يقول الطرفان إنّهما لا يريدانها، ولكنهما يستعدّان لها.

بهذا المعنى، فإنّ الموفدين الدوليين الذين زاروا لبنان في الآونة الأخيرة، حملوا معهم رسائل تصبّ بمجملها في الاتجاه نفسه، وهو اتجاه التهدئة، ومنع الأمور من التفاقم، خصوصًا في ظلّ تصاعد التهديدات الإسرائيلية التي تتفاوت التقديرات بشأنها، بين من يضعها في خانة “محاولة التعويض” عن الفشل في تحقيق إنجاز مرجوّ في غزة، بعيدًا عن تدمير القطاع وتحويله إلى منطقة غير صالحة للسكن، ومن يربطها بشعور سكان المستوطنات الشمالية بعدم الأمان.

من هنا، فإنّ ما يركّز عليه الموفدون الدوليّون يتمحور بشكل أساسي حول السبل الآيلة لمنع التصعيد، من الحديث عن تطبيق القرار الدولي 1701، إلى طرح الشروط الإسرائيلية حول ضرورة انسحاب “حزب الله” إلى ما وراء الليطاني، فضلاً عن طرح وجوب “عدم الربط” بين جبهتي غزة وجنوب لبنان، وبالتالي إنهاء العمليات العسكرية بمعزل عن “تطورات” الحرب في غزة، التي تشير المعطيات إلى أن مرحلتها الثالثة باتت أقرب من أيّ وقت مضى.

وإذا كان الجانب اللبناني يضيف إلى هذه الملفات، الهمّ المستجدّ بعد قطع العديد من الدول المانحة الرئيسية الدعم لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وهو ما ينذر ليس فقط بتصفية القضية الفلسطينية، ولكن أيضًا بتداعيات “كارثية” على لبنان الذي يستضيف “حصّة الأسد” من اللاجئين الفلسطينيين، فإنّ العارفين يجزمون بأنّ الملف الرئاسي يبقى “الغائب الأكبر” عن هذه الزيارات المكثّفة، وإن حضر فمن باب “رفع العتب” ليس إلا.

إلا أنّ ما يجدر الالتفات إليه، وفقًا للعارفين، هو أنّ الحراك الدبلوماسي المحصور بالملف الأمني من البوابة الجنوبية، لا يأتي “معزولاً في السياق”، فهو يتزامن مع تحريك الملف السياسي من خلال اللجنة الخماسية، التي فعّلت حراكها في توقيت يعتبره كثيرون “ملتبسًا”، وقد أدّى ذلك إلى ظهور “ارتباك واضح” داخل “الخماسية”، دفع سفراءها في لبنان مثلاً إلى تحديد مواعيد، قبل إلغائها، ومن ثمّ إعادة تحديدها، في سياق “غسل ماء الوجه” ربما.

ومع أنّ أوساط السفراء الممثَّلين في “الخماسية” قلّلوا من شأن “التردّد والارتباك” الذي خرج إلى العلن في مكان ما، ووضعوه في خانة “تضارب المواعيد وسوء التنسيق” ليس إلا، فإنّ العارفين يتحدّثون عن “تباينات” لم تعد خافية بين أعضاء “الخماسية” أنفسهم، الذين يدفع بعضهم باتجاه “فصل كامل” بين الرئاسة والأمن، فيما لا يمانع بعضهم الآخر في التوصّل إلى “مقايضة ما”، يمكن الخروج بموجبها بنتائج “عملية” على الأرض.

من هنا، قد يكون “سرّ” تجدّد حراك “الخماسية” كامنًا في التوقيت ليس إلا، لأنّ المعطيات المتوافرة لا تؤشّر إلى حدوث تغيير حقيقيّ في مقاربات الأفرقاء وتموضعاتهم، وهو ما تكرّس في الأيام القليلة الماضية بعودة الحديث عن “حوار” يريده رئيس مجلس النواب نبيه بري، ويدعمه مؤيدو رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية، فيما لا يزال معارضوه وعلى رأسهم حزب “القوات اللبنانية” يرفضونه، بل يعتبرونه “حوارًا لتبنّي ترشيح فرنجية”.

مع ذلك، ثمّة من يراهن على “الإيجابية” التي أفرزها لقاء سفراء “الخماسية” مع بري للحديث عن “أفكار جديدة” تُطرَح في الكواليس، ويُنتظَر أن تتبلور في الاجتماع المرتقب في غضون أسبوعين، ولو أنّ العارفين يعتقدون أنّ كل ما يحصل لا يتعدّى “جسّ النبض وملء الوقت”، بدليل أنّ كل التسريبات حول مداولات لقاء السفراء مع بري، أكدت عدم الخروج عن “العموميات”، بل حصرت نشاط هؤلاء بتحديد “مواصفات” يمكن إسقاطها على كل المرشحين.

في النتيجة، يقول العارفون إنّ الحراك الدبلوماسي والسياسي المكثّف حول لبنان قد يكون مؤشّرًا جيّدًا، على أنّ لبنان لا يزال في صلب اهتمامات المجتمعين العربي والدولي، وأنّه ليس “متروكًا” في مكانٍ ما. لكنّ الأكيد أنّ “الرهان” على مثل هذا الحراك لحلّ الأزمات، سواء في الرئاسة أو في الأمن، قد لا يحصد سوى “الخيبة”، لأنّ الكرة تبقى في ملعب اللبنانيين أنفسهم، ولو بقي بعضهم مصرًّا على رفض الحدّ الأدنى من “الحوار” بين بعضهم بعضًا!.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.