بين تقديس الحراك الشعبي وتدنيسه
المفاجأة الصاعقة في الحراك الشعبي التي أصابت الطبقة السياسية بالهلع من انفجار منظومة الانهيار والنهب والفساد، أصابت حزب الله بالخوف من الفراغ والفوضى التي تستند إليهما الإدارة الأميركية وحلفاؤها الدوليون والإقليميون والمحليون لمعاقبة رئيس الجمهورية ووزير الخارجية نتيجة مواقفهما في الأمم المتحدة والجامعة العربية، وهي محاولة لتحجيم الحزب في الحكومة تمهيداً لحملة نزع سلاح المقاومة والمراهنة على عودة لبنان إلى الصف العربي (السعودي ــ الإماراتي) في الاتّجاه «نحو السلام». هذا ما دفع القوى الضاربة في المنظومة الاقتصادية والسياسية الفاسدة من القوات وجنبلاط والمستقبل، إلى الرمي بثقلها في شوارع الحراك أملاً بتجديد منظومة النهب والفساد، وبالعودة إلى الوصفة الأميركية ــ الأوروبية في مقولة «قرار الحرب والسلم».
كن هذه المفاجأة أصابت الشخصيات وتيارات المعارضة الوطنية بالزهو والحنين إلى إحياء خطابها السياسي المحمول من مرحلة السبعينات، الذي نسخته قطيعة التحولات النيوليبرالية العالمية ــ الإقليمية ــ اللبنانية، والمتغيرات الاستراتيجية في لبنان والمنطقة، مع منظومة السبعينات من القرن الماضي. فبقيت قراءتها لأزمة النظام السياسي وأزمة الانهيار الاقتصادي ــ الاجتماعي على حالها الغابر، من دون أن تؤثر فيها بوصة واحدة من مؤلفات وأدبيات ونشاطات حركة المناهضة والعولمة البديلة للنموذج النيوليبرالي في أميركا الجنوبية وأوروبا وأصقاع الأرض، سوى بلصق عبارة نيوليبرالية على الواجهة أحياناً. وفي هذا السياق، تراءى لشخصيات وتيارات المعارضة الوطنية أن الحراك الشعبي ثورة أطاحت بالنظام الطائفي، وأنه يثبت التخلّي الشعبي عن الاصطفافات الطائفية بين عشية وضحاها، ما يحفّز مخيال التأكيد على مقولاتها في إسقاط نظام المحاصصة الطائفية كوصفة جاهزة من شأنها وقف الانهيار الاقتصادي ــ الاجتماعي وفساد الطبقة السياسية في نهب المال العام.
الانهيار والفساد نتاج المنظومة النيوليبرالية المعولمة
ما يكشفه الانهيار الاقتصادي ــ الاجتماعي من أزمات مستعصية، أبعد من الانهيار المالي وفقدان سيولة الدولار والعملة، ويضرب جذوره عميقاً في أزمة العمل والبطالة وأزمات التعليم والطبابة والخدمات الاجتماعية وإدارات الدولة، وكلّ سبل الأمن الاجتماعي والمعاش والحياة الآمنة.
وقد استفحلت هذه الأزمات، قبل ثلاثة عقود، في سياق تحوّل المنظومة الدولية الرأسمالية إلى النيوليبرالية المعولمة، التي أنتجت في كل البلدان ما أنتجته في لبنان بقطع النظر عن نظام الحكم وقوانين الانتخاب والسلطة والطبقة السياسية. فهذه المنظومة، تتحكم بها وتقرّرها وفق النموذج الأميركي في لبنان وفي كل البلدان، المؤسّسات المالية الدولية والبنك الدولي والدول المانحة ومصالح حرية الرأسمال في السوق والتجارة والاستثمار الأجنبي المباشر، وإدارة سياساتها الاستراتيجية والتكتيكية، التي باتت ثقافة شعبية شبه عامة لأحلام الرفاهية والازدهار في بلادنا على وجه الخصوص. وهي تتغلّب على قرارات السلطة المحلية، إذا تضاربت معها في بلد ما تحت تأثير الضغط الشعبي، وتفرض عليها ما تفرضه على اليونان وعلى كلّ الدول الأوروبية التي لم ينجح فيها الضغط الشعبي في تغيير المسار في فرنسا وغيرها. ولعلّ المراهنة في كل بلد على حدة من هذه البلدان على اللعبة الانتخابية الديموقراطية لتغيير نظام الحكم، هو سبب رئيس من أسباب فشل الضغط الشعبي. فبينما تخوض النيوليبرالية حرباً معولمة لتعميم المنظومة الفاسدة المنتجة للفساد في تدمير الإنتاج والبنى الاجتماعية وإلغاء دور الدولة لمصلحة السوق والمال والأعمال، تراهن الفئات المتضرّرة من تهميش الحقوق الطبيعية والمكتسبَة، على مواجهتها في أضيق مواقع التأثير والفعالية، لأنها اعتادت طويلاً قبل عولمة النيوليبرالية على عادة إصلاح السياسات وخيارات الطبقة السياسية المحلية عبر التأثير في اللعبة الانتخابية. فهي لا تقرأ أن ما كان واقعاً في مرحلة قرن من تاريخ الرأسمالية الديموقراطية الصناعية، له ما بعده في تحوّل الرأسمالية نفسها إلى رأسمالية مالية فاسدة وفق عولمة النموذج الأميركي.
تقديس الفساد الأكبر في بعض حراك الشوارع
تتعدّى استراتيجيات النيوليبرالية الإجراءات الاقتصادية التي تتحكّم بإدارتها المؤسسات الدولية الراعية لمصالح حرية الرأسمال في الشركات العملاقة والبورصات الدولية، إلى تمجيد قيَم نموذج هذا الفساد الأكبر في أجهزة الدولة والطبقة السياسية وبين فئات النخبة السياسية والاقتصادية والفكرية وبين شرائح المجتمع أيضاً. فهي تزرع وتعمّم قيَم العبودية للمال التي تتيح للطبقة السياسية فرض الأتاوة على التجارة والأعمال الفاسدة وشراء المكانة والنفوذ، وتتيح لمعظم النخب مكاسب الرزق في نشر عجائب الفساد الأكبر، كما تتيح لمعظم شرائح أجيال السوق إشباع الحاجات الوهمية في استهلاك السلع المستوردة و«الماركات»، دلالة على الارتقاء الاجتماعي. كذلك، فإن تعميم ونشر ثقافة تمجيد الفساد الأكبر تتولاهما معاهد «نشر الديمقراطية» الأميركية والأوروبية، التي تدرّب وتموّل بسخاء جحافل «المنظمات غير الحكومية»، على توجيه تمرّد وغضب الفئات المتضرّرة من فساد المنظومة النيوليبرالية باتّجاه حصرها في فساد الطبقة السياسية المحلية وحدها. فهي تأخذ التمرّد والغضب للتصويب على فساد الطبقة السياسية المحلية وحدها، بهدف تمجيد منظومة الفساد الأكبر المسبّبة لتعميم الفساد. وهذه الجمعيات والجماعات النيوليبرالية المرتبطة بالهيئات والأجهزة الدولية، تنشط في شوارع الحراك الشعبي لنشر انطباع عام بين الشباب على وجه الخصوص، بأن فساد الطبقة السياسية المحلية هو ما يُفسد نتائج الازدهار الباهر الذي تحمله إلى لبنان المنظومة الدولية. لكنها تتجنّب في راهن الحراك الاجتماعي الوجه الآخر لاستراتيجية الدفاع عن منظومة الفساد الأكبر، وهو ترويج الأوهام المشبوهة بأن أحلام الازدهار الموعود تتطلّب أيضاً «الأمن والسلام» ونزع سلاح حزب الله والانفتاح على وصفات «العالم الحرّ».
الجانب الآخر من نشر وتعميم منظومة ثقافة تمجيد الفساد الأكبر، تتولاه مراكز الأبحاث الدولية والجامعات و«بيوت الخبرة»، التي تربّي وتخرّج صفوة الخبراء والتكنوقراط لإدارة منظومة الفساد الأكبر والأصغر. وهي تعتمد في ذلك، على دغدغة المشاعر الشعبية البسيطة بأن وصفات الاقتصاد النيوليبرالي هي علم مجرّد للخير العام منزّه عن غرض السياسة الاقتصادية التي تخدم مصالح فئات محدودة نافذة في الاقتصاد والسياسة على حساب الأغلبية الساحقة من الفئات الاجتماعية، وأن علم التكنوقراط وخبراء هذه المنظومة هو خبرة وكفاءة علمية صافية لوجه الله.
تغيير مسار الانهيار والفساد هو مسار بدائل
نهب المال العام هو في حقل الجرائم التي ترتكبها عصابات المافيا السياسية والمالية، أبعد من فساد المنظومة السياسية والاقتصادية وفساد ثقافة الاستهلاك البذيء في المجتمع. والتجربة الوحيدة لمكافحة هذه الجرائم نجحت في إيطاليا، حيث سبّب الضغط الشعبي بتحرّك بعض القضاة لإنشاء محكمة خاصة الصلاحيات في خوض معركة سياسية ــ قضائية بحماية شعبية، تفرض المحاسبة والمعاقبة على الجسم القضائي والطبقة السياسية. ومن دون ضغط الحراك الشعبي في هذا الاتّجاه، قد تبقى المراهنة على المؤسسات الدستورية والتشريعات الموعودة لاستعادة الأموال المنهوبة، بحدود «الكي على الجلال»، بحسب الحكمة الشعبية.
كن مطالب الشباب والطلاب والفئات الشعبية المتضررة من تهميش المنظومة النيوليبرالية وفساد الطبقة السياسية ومؤسسات نظام الحكم، لا تزال، بعيداً عن بعض الشعارات المشبوهة، مطالب عفوية تبسيطية. فالمنصّات في ساحات الاعتصام، التي تتداول في التعبير عن هذه المطالب، تقارب أزمة الانهيار الاقتصادي ــ الاجتماعي وفساد المؤسسات والطبقة السياسية بمنظور مظاهرها المحلية، من دون بحث الأسباب المسبّبة لهذه النتائج في المنبع أبعد من المصب. والأدهى، أن المنصّات بمعظمها تتوهم معالجة المظاهر المحلية، من دون التحوّل عن سياسات الأسباب المسبّبة في المنبع نفسه. ولعل «لقاء الكومودور»، الذي «يتكلم بالسياسة» لشعوره بعدم وضوح الرؤية والشعارات كما يقول، يسعى لبحث مقاربة رؤية سياسية، لكنه يحصر نفسه في أوهام إصلاح الحكم والدولة في لبنان، اعتماداً على التغيير المحلّي في قانون الانتخابات لتلبية مطالب الشعب. ولا تبحث تيارات هذا اللقاء، والمنصّات الأخرى، في مسار رؤية سياسية لمشروع إعادة بناء الدولة ومؤسساتها، على قاعدة البدائل في السياسة الاقتصادية ــ الاجتماعية والسياسة الخارجية والدفاعية، لإجراء اختيار النواب والحكم على أساسها وتوحيد القوى المتضرّرة من السياسات النيوليبرالية ومن فساد الطبقة السياسية والحكم، على أساس وحدة المصالح.
ما ينأى عنه حزب الله في أولوياته لحماية ظهره، هو حجر الزاوية لوحدة المصالح وطموحات الفئات الشعبية في ترابط المقاومة الوطنية ضد الاستراتيجيات الأميركية والأوروبية، مع المقاومة الاقتصادية ــ الاجتماعية ضد فساد المنظومة النيوليبرالية وفساد الحكم والطبقة السياسية. وبداية المسار في هذا الاتجاه، هي التحوّل عن الاستراتيجيات الأميركية ــ الأوروبية في المنطقة ولبنان المترابطة مع سياساتها الاقتصادية ــ الاجتماعية، تحت إشراف البنك الدولي والدول المانحة والمؤسسات المالية الدولية. وهذا التحوّل هو رؤية وخيارات سياسية بديلة، تتطلّب علماً وخبرة وكفاءات مناهضة لعلم وكفاءات النموذج النيوليبرالي الفاسد في الاتجاه إلى تبادل المنفعة والمصالح المتكافئة بين دول المنطقة في سوريا والعراق والأردن وتركيا وإيران وأبعد، والتحوّل عن سياسة تدمير المجتمعات والحياة الطبيعية الكريمة في سياسات الديون والريع والاستهلاك الفاسد إلى الإنتاج والاستهلاك النظيف. فالضغط الشعبي لتأليف حكومة إنقاذ سيادية قد يكون إحدى خطوات هذا المسار الأولى.
قاسم عز الدين