الإنسانُ وجهٌ

جداريّةُ البشارةِ في دَياميسِ روما، والتي تعودُ إلى أواخِر القرنِ الثّاني الميلادي، أو أوائلِ القرنِ الثّالث، تَشهدُ على أهميّةِ عيدِ بشارةِ سيِّدتِنا والدَةِ الإلهِ الفائقةِ القداسة، هذا العيدِ الكبير في إيمانِنا المسيحي.

كيفَ لا ونحنُ نرتّلُ فيه: “اليومَ رأسُ خلاصِنا. وإعلانُ السِّرِّ الذي مُنذُ الدُّهور. فإنَّ ابنَ اللهِ يصيرُ ابنَ البتول. وجبرائيلَ بالنعمةِ يُبشّر. لذلكَ نحنُ معهُ فلنهتِفْ نحوَ والدةِ الإله. إفرحي أيّتها المُمتلئةُ نعمةً الرّبُ معكِ”.

نشاهدُ في الجِداريَّةِ وَجهَين يَلتقيان في أهمّ حَدَثٍ حصلَ في المسكونَة جمعاء، أَلا وهوَ أنَّ اللهَ تجسّدَ في أحشاءِ عذراءٍ نقيَّة.

هذه الجداريَّةُ بسيطةٌ للغاية، لكنّها تشيرُ إلى تدبيرٍ إلهيٍّ خلاصيٍّ عميقٍ جدًا لا يُدرَك إِلّا بالمَحبَّة، تمّمَهُ الرّبُّ القدّوس بِصَيرورَتِهِ إنسانًا، ليُصبحَ عيدُ بشارةِ مريم العذراء، عيدَ التجسّدِ الإلهيّ. وبعدَ تِسعةِ أشهر مِن بِشارَتِها، يولَدُ يسوعُ مِن أحشائِها الطاهرة، فيكونَ حدثُ الميلادِ المجيد، عيدُ ظهورِ اللهِ بالجسد.

إذًا ما نراهُ هوَ لقاءٌ إلهيٌّ – بَشرِيّ: رئيسُ الملائكةِ جِبرائيلُ يُمثِّلُ العالَم السَماويّ، والعذراءُ تُمثِّلُ جِنسَنا البَشرِيّ.

لقاءٌ غيَّرَ كلَّ المعادلاتِ والفلسفاتِ والمُعتقدات، لِقاءٌ تُعلِنُ المسيحيَّةُ فيهِ: “أنَّ اللهَ أصبحَ إنسانًا، ليَصيرَ الإنسانُ إلهًا بِالنعمَة”. إعلانٌ تَتَفَرّدُ به المَسيحيّةُ دونَ سِواها. لهذا قالَ الآباءُ القِدّيسون: “المَسيحيَّةُ تَجسُّدٌ إلهيّ”.

هذا فيضُ المَحبّةِ الإلهيَّةِ اللامتناهيّةِ تجاهَ البَشر، لأنَّ الإنسانَ مشروعُ اللهِ وأيقونتُهُ البهيَّة إِن أحسَنَ الاتّحادَ بِه.

هذا التَّصويرُ البِدائيُّ في جِدارِيَّةِ البشارَة، بقيَ على حالِه في أيقونَةِ عيدِ البشارَة على مَدى الأجيال.

طَبعًا هناكَ تَطوّرٌ في التَّصويرِ والألوان، إنْ مِن ناحيةِ التِقَنِيَّةِ والتَّعْبيرِ والتفاصيلِ في الوجوهِ والملابس، أَو في حَرَكَةِ الجِسمَين، كما وفي مكانِ الحَدَث. إلّا أنّهُ يبقى الوجهان المُتقابلان المِحوَرَ الأساسيَّ والعيد. وذلكَ لأنَّ أجمَلَ ما في الوجود هوَ وجهُ اللهِ المُتأنّس، يقابلُه وجهُ الإنسانِ المُتألّه. هذا ما كانت عليهِ والدةُ الإله، وهذه هي دعوةُ الله لكلِّ واحدٍ منّا.

فالرّبُّ أتى إلى دنيانا ليرفَعَنا إلى سَماه. قابَلنا وَجهًا إلى وَجه، فاستنارَ وجهُنا بنورِ وجهِه القدّوس. مِن هنا نَقولُها بالفَمِ الملآن، ونَخُطُّ هذا القولَ بالخَطِّ العريض: “الإنسانُ هوَ وَجهٌ، ودونَ ذلكَ هو ترابٌ بَحْت.

يُخطئُ كثيرًا مَن يَعتقدُ أنَّ وجهَ الإنسانِ هوَ شكلٌ خارجيٌ وتقاسيم. والخَطَأُ الأكبَرُ هو حَصرُ الجَمال في هذهِ الملامِح، ضارِبًا بِعرضِ الحائِط الجَمالَ الداخِليّ: “جمالَ القَلْبِ والرُّوح”.

يقولُ سليمانُ الحكيم في سِفرِ الأمثالِ: “الْقَلْبُ الْفَرْحَانُ يَجْعَلُ الْوَجْهَ طَلِقًا، وَبِحُزْنِ الْقَلْبِ تَنْسَحِقُ الرُّوحُ[1]“. ما مِعنى هذا الكلام؟

الإجابةُ على هذا السؤال يَفترضُ معرفَة ما هو الفَرحُ الحقيقيُّ الذي يَدوم! فَأفضلُ جوابٍ على ذلك وَأدَقّهُ هوَ كلمةُ “طوبى” التي استعملها المُخَلّص.

كلمةُ “طوبى” تُشيرُ إلى فرحِ القلبِ النقيِّ والطاهِر، والمُمتَلِئ بالنعمَةِ الإلهيَّة، والمُتّحدِ بالرّبِّ يسوعَ المسيح. لهذا، بالإضافَة إلى التطويباتِ التِسَع التي قالَها يسوع، نَجدُه يَمتَدِحُ تلاميذَه قائلًا: “طُوبَى لِلْعُيُونِ الَّتِي تَنْظُرُ مَا تَنْظُرُونَهُ![2]“، مُشيرًا بذلكَ إلى أنّهم ينظرونَ كلمةَ اللهِ الحيّ المتجسّد، الذي هُوَ.

كذلكَ نراهُ يقول: “طُوبَى لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ وَيَحْفَظُونَهُ[3]“.فما أجمَلُكِ أيّتها العَذراء، والدَةُ الإله، التي لم تنظري وتَسمَعي وتَحفظي كلامَ اللهِ فحَسب، بل حَملتِهِ في أحشائِكِ الطاهِرَة.

يا لهذه العَظَمَة الكبيرة التي أنعمَ اللهُ فيها عَليك!.

ولكثرَةِ مَحبّته لنا، أعطانا اللهُ النِّعْمَةَ الإلهيَّة نفسَها بتناوُلِنا جَسَدَهُ ودمَهُ الكريمَين. ومَن يَتقدّم إلى القُدساتِ بقلبٍ تائِب، يكونُ له ما قالَه الرّبُّ ليوحنّا الإنجيلي: “اكْتُبْ: طُوبَى لِلْمَدْعُوِّينَ إِلى عَشَاءِ عُرْسِ الْخَرُوفِ[4]!”.

إذًا، الذي يجعلُ وَجهَ الإنسانِ جَميلًا ونَضِرًا، هو صَيرورةُ الإنسان إناءً منيرًا لله. هذا هو وجهُ والدةِ الإله في أيقونةِ البِشارة، وفي كلِّ أيقوناتِها المُقَدّسة. كذلكَ وجهُ القِدّيسينَ والقِدّيسات الذين يَدعون كلَّ الناسِ أن يُماثلونَهم في سيرتِهم وجِهادهم.

فالوجه الجميل يَمرُّ أولًا بِتوبَة صادقة، ومُراجَعةٍ للذات، وتَغييرٍ للمَسلَك ليكونَ مُستقيمًا كما يُريدُه فادينا. وإذا التقيناه، امتلأَ قلبُنا بِغبطَةٍ ليست مِن هذا العالم. هذا ما حصَلَ مع أحدِ تلامذَة القِدّيس أنطونيوس الكبير، الذي بَقيَ صامتًا أمامَه، ولم يَطلبْ كلمَةَ مَنفعَةٍ مثلَ الباقين. وعندما سألَه قِدّيسُنا عن سببِ صمتِه، أجابه: “يكفيني النظرُ إلى وجهِكَ يا أَبي”!.

كَتبَ مَرَّةً الفَيلسوفُ الرُّوسيُّ المُعاصِر Emmanuel Levinas في كِتابه Ethique et infini: إنَّ الوَجهَ هو “دلالةٌ ومَضمون”. وَتابَع، “صَحيحٌ أنَّ هناك تقاسيمَ خارجيَّةً للوجه، بالإضافَةِ إلى ما يُظهِرُه، ولكنَّ الطريقَةَ الفُضلى للتَعرّفِ إلى الوَجه هي الدُّخولُ إلى العُمق”.

هذا تمامًا الفَرقُ بين الصُّورةِ الشَمسيَّة للشخص والبورتريه Portrait. ومَن يُحسِنُ المُقارَنَة، يكتشفُ أنَّ الوَجهَ مَكشوفٌ مهما تَقَنّع بِشتّى الأَقنعَة. فصاحبُ القَلبِ الصَّادقِ له وجهًا بريءً وجَريء، والعكس صحيح. هذا ما يُذكّرُنا بِما قاله أيّوبُ الصِّدّيق: “والآن تفرّسوا فـيَّ، فإنّي على وجوهِكُم لا أكذب[5]“.

خِتامًا، تَطلَّ علينا والدةَ الإله في بِشارتها، بِوَجهٍ مَلائِكيّ لا يَعرفُ إلّا عِشقَ الخالق، وبِوجهٍ نَقيٍّ استحقَّ أن ينظرَ وجهَ الله، كما جاءَ في المَزمور القائِل: “الْمُسْتَقِيمُ يُبْصِرُ وَجْهَ الله[6]“. وتقولُ لنا دائمًا ما قالته العَذراءُ للخُدّام في عُرسِ قانا الجَليل، “مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ[7]“.

فما يَجعلُ مِن وجوهنا “بِشارة” سارّة، مُستقيمة وغير ملتَويَة، هو أن نأخذَ مِن وجهِ اللهِ نُورًا وجَمالًا، وننيرُ بِهِ الآخرين.

فيا والدةَ الإله، كوني لَنا مُرشَدَةً وهادِيَة، “وليكُن الناظرُ إليكِ مُباركًا[8]“.

إلى الرّب نطلب.

الأب أثناسيوس شهوان

[1]. أمثال ١٣:١٥

[2]. لوقا ٢٣:١٠

[3]. لوقا ٢٨:١١

[4]. رؤيا ١٣:١٤

[5]. أيوب ٢٨:٦

[6]. مزمور ٧:١١

[7]. يوحنا ٥:٢

[8]. راعوث ١٩:٢

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.