لبنان المتمرِّد

        أن يَكونَ لبنانُ مُتَمَرِّداً، فَهَذِهِ لا صِفَةٌ يُكَنَّى بِها، بَل طَبيعَتَهُ التي مِنها يُدنى تَوَسُّلاً الى الخَلاصِ.

بِهَذِهِ الطَبيعَةِ لا يَشاءُ إلَّا أن يُعطيَ لا أن يأخُذُ، مُذ أُعطِيَ الوجودَ نِعمَةً. كَيفَ لا، وَهوَ إنطَلَقَ مِن خاصِيَّةِ وجودِهِ الى الكَشفِ عَن سَبَبِيَّةِ الوجودِ الكُليِّ وَمِعناهِ. وِكانَ لَهُ ذَلِكَ مِن خِلالِ الإرتِباطِ بالنورُ لا بأيِّ أمرٍ آخَرَ.

          أنورٌ مِن نورٍ هوَ؟ بالتأكيدِ. ألَم يُكَرِّس هَذِهِ الفَرادَةَ الإستِثنائِيَّةَ بإطلاقِهِ إسمَ “هيليوبوليس” أيّ “مَدينَةَ الشَمسِ”، مَصدَرَ النورِ، على إحدى أهَمِّ مَدائِنِهِ، تِلكَ الواقِفَةِ صِلَةَ وَصلٍ بَينَ إمتِداداتِ عِبابِ اليَّمِ وَغِمارِ الصَحارى: بَعلَبكَّ؟ ألَم يُعليها حَدَّ السَماءِ، ثالوثِيَّةَ هياكِلَ مُتعانِقَةٍ، على إسمِ مَن بِهِ يؤمِنُ: الإلَهُ الأبُ، الإلَهَةُ الأُمُّ، الإلَهُ الإبنُ، لِكَيما يُؤَكِّدَ أنَّ شَمسَهُ لَن تَغيبَ لِأنَّ مِن حِضنِ النورِ إنبِثاقُهُ، وإلى حِضنِ النورِ التِهابُهُ؟.

          مِن ذا النورِ، وَهَبَ لبنانُ المَوهوبَ الوجودِ، لِلوجودِ حَيثِيَّتَهُ: مِن دونِ النورِ، إضمِحلالُ الوجودِ حَدَّ إخفائِهِ وَتَوَقُّفَ خَفَقانِ الحَياةِ فيهِ. بالنورِ، أزَلُ الوجودِ يَبلُغُ الأبَدَ. وَفيهِ، تَكونُ الحَياةُ. والرابِطُ بَينَ النورِ والحَياةِ: الكَلِمَةُ. بِها الحَياةُ تَعابيرُ قُدرَةِ العَقلِ البَشَرِيِّ. بِها الحَياةُ نورُ الإنسانِيَّةِ.

الكَلِمَةُ! ألَيسَ لبنانُ الَذي إبتَكَرَها حُروفاً وَطَوَّعَها قوالِبَ وَنَشرَها عَلى إمتِدادِ المَسكونَةِ، سائِراً بِها الى أعماقِ الُلجَجِ، لِتَكونَ صِلَةَ الوَصلِ بَينَ شُعوبِ اليَّمِ وَشُعوبِ الصَحارى، عَلى إختِلافاتِهِمِ؟ هوَذا تَمَرُّدُ لبنانَ يَبلُغُ ذُروَتَهُ، إذ جَعَلَ مِن ذاتِهِ نوراً لِكُلِّ إنسانٍ وَلِكُلِّ الإنسانِ… حِينَ الإنسانُ، مُذ كانَ، إندَفَعَ الى الظَلامِيَّاتِ بِها يَستُرُ عَوراتِهِ، وَتَمَنطَقَ بالعُنفِ بِهِ يَستَبغي ذاتِيَّتَهُ، وَتَسَربَلَ بالعُزلاتِ بِها يَستَنزِفُ سَطوَتَهُ.

أجَل! لبنانُ المُتَمَرِّدُ، بالنورِ يَجذُبُ الى غَلَبَةِ العُلى، حِينَ القاينِييُّونُ يُخصِبونَ المَسكونَةَ قَتلاً لِلإخاءِ، وَيَنحَدِرونَ الى ما دونَ قَلبِ الأرضِ لِيَختَبِئوا مِن فِعلَتِهِمِ، فَيَغرَقوا في الظُلُماتِ المُعدِمَةِ… والى أبعَدَ، يَبقى ضَميرُ النورِ يُلاحِقُهُم. أفي المَوتِ، وَهوَ إنعِدامُ النورِ، تَتَآلَفُ نِعمَةُ الخالِقِ الواهِبِ مَعَ إنسانِيَّةِ المَوهوبِ؟

وَحدُهُ لبنانُ-النورِ يُخَوِّلَ القَولَ أنَّ لبنانَ فِعلُ وجودٍ، وَكَمالُ الوجودِ… بِجَوَهَرِ التَمَرُّدِ. هِذِهِ نواةُ قانونِ الإيمانِ بِلبنانَ: لَو لَم يَكُن لبنانُ نوراً مًتَمَرِّداً، لَما كانَ وَسمٌ لِلبَشَرِيَّةِ وإعتِلانٌ لِحَقيقَتِها وَيَقينٌ لإنبِعاثِها. وَهَذا التَمَرُّدُ لَيسَ مُجَرَّدَ تَحريرٍ سياسيٍّ حَينَ العَقلانِيَّةُ إرتِدادٌ الى الإنحِسارِ في الأوهامِ، والشَريعَةُ رُكونٌ لِلمادِّياتِ، والحُكمُ تَكَسُّبُ خُيورِ الإفناءِ.

إدمانُ الفَواجِعَ

وَبَعدُ، ألَيسَ في القُرآنِ الكَريمِ، أنَّ مِن آياتِ اللهِ أنَّهُ “خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَٰنِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّلۡعَٰلِمِينَ” (سورة الروم، الآية 22)؟ ألَيسَ اللهُ يُنادي البَشَرَ قائِلاً: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا…” (سورة الحجرات، الآية  13)؟

بِوَجهِ الإندِفاعِ المَسعورِ الى تَدميرِ الأعماقِ، والإنحِباسِ في إدمانِ الفِواجِعَ، وَتَغليبِ جِبَروتِ الإستِبدادِ،

بِوَجهِ إخراسِ الكَلِمَةِ، وَصَهرِ الرؤى،

بِوَجهِ هَزيمَةِ الإنسانِيَّةِ،

كانَ لبنانُ المُتَمِرِّدُ، لبنانُ المؤَنسِنُ، لبنانُ-النورُ-الكَلِمَةُ وَسَيَكونُ. بِهِ، وَعيُ الذاتِيَّةِ لِغَيرِيَّتِها. وَمِن دونِهِ، الوجودُ لا يُحَدِّدُ هوِيَّتُهُ. مِن دونِهِ، الوجودُ مَشروعٌ مُحالٌ.

قُلنا، هيَ طَبيعَةُ لبنانَ يُدنى مِنها لِلخَلاصِ؟ لَيسَ الخَلاصُ بِمُستَحيلٍ وَلا بِمَحظورٍ.

أن يَكونَ لبنانُ-الوجودُ، مِعناهُ أن يَنتَصِرَ بِتَمَرُّدِهِ عَلى الإنصياعِ. أفي التَمَرُّدِ بَعضٌ مِن عِنادٍ؟ بَل كُلُّ عِشقِ الدَهرِ الآتيَ.

د. ناجي م. قزيلي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.