لبنان-العاصي لبنان-المنصور

هو العاصي غادَرَنا مَطلِعَ الصَيفِ. هو المَنصور غادَرَنا مَطلِعَ الشِتاءِ.

هُما، الأخوانِ رَحباني-لبنانُ. لَم يَعرِف العالَمُ إلّاهُما مَن مَحا الواحِدُ ذاتَهُ، ليَصيرَ وَشَقيقَهُ واحِداً، في سُموِّ نُكرانِ ذاتٍ مَوسومٍ بالرِضى، وَهَمُّهُ الخَلقُ.

هُما، كَما اللهُ، ثالوثٌ بِأقانيمَ ثَلاثَةٍ: ثالِثُهُما لبنانُ.

مَعَهُما الُلبنانُ نادِرٌ شِعراً وًموسيقى وَمَسرَحاً، جُرأةً وَمَكنوناتٍ. مِن وَعرٍ، وَكُرومٍ، وَجناينَ، وَتِلالِ صَنَوبَرٍ، وَغاباتٍ، وَجِبالِ صَوَّانَ، وَقَهوَةٍ، وَكَرَكونَ، وَطَواحينَ، وَدَرَجٍ، وَمينا، وَطَريقَ نَحلٍ، وَيَنابيعَ، وَمَفرَقٍ، وَساحَةٍ، وَمَحَطَّةٍ… جِسراً لإشهارِ الإنسانِ في الحَقِّ أيّ مُستَزيداً مِنَ الحُرِيَّةِ وَمُزيداً عَلَيها، في ثُنائِيَّةِ المَكانِ والزَمانِ: “لا أبيعُ أرضي بِذَهَبِ الأرضِ/ تُرابُ بِلادي تُرابُ الجِنان/ وَفيهِ يَنامُ الزَمان”.

أفي الجَمالِ إبتَدَعا لبنانَ؟ بَل بِما هوَ إبهارٌ مُتَعَبقِرٌ وَرَوعَةٌ مُعَقلَنَةٌ، أسطَراهُ على شَخصِيَّاتٍ طالِعَةٍ مِن أعماقِ رؤيا تَجَسَّدَت حِواراتٍ مَعَها تُشرِقُ الشَمسُ، وَيَنهالُ القَمَرُ، وَتُمطِر الدُروبُ، وَتَتَدَفَّقُ اليَنابيعُ، وَلا تَبقى شَجَرَةٌ عاريَةٌ مِن سُطوعِ أوراقِها… في صَفوَةِ إنتِباهِ الحُبِّ الى هِدايَةِ مُحتاجيهِ. هُناكَ حَيثُ العَبقَرِيَّةُ وَحدُها دَفقُ خَلقٍ يواجِهُ، بِعالَمِ الشَعبِ، حارِسِ النورَ مِنَ العَتمَةِ، تآلُفَ عالَمِ السُلطَةِ مَعَ عالَمِ قُطَّاعِ الطُرُقِ والمُهَرِّبينَ في مَنظومَةٍ هي قُوَّةُ مُمانَعَةٍ بِوَجهِ خَواتيمَ الحَقِّ-الحُرِيَّةِ.

مِن هَذا الُلبنانُ-العاصي-المنصور، إرتِعادٌ يَتَصاعَدُ إمتِداداً وَكَثافَةَ إرتِباطٍ. أأقولُ عَصفٌ مِنَ الإلفَةِ الأولى الى العُمرِ المَفتوحِ عَلى الَلهفَةِ؟ بَل بَلاغَةُ المَدارِكَ، حَيثُ إشعاعُ الوَحي والموحى بهِ يُكَثِّفُ مَدارِكَ الشَغَفِ الَتي مِنها الدَهشَةُ فَضاءاتِ إنبِهارٍ.

من هذا الُلبنانُ-المنصور-العاصي، نَسيجٌ بوليفونيٌّ لِروحٍ هارمونِيَّةٍ تَتَناثَرُ نُصوصاً مُتَجَلِيَّةً جَمالِيَّاتٍ تَفوقُ المُبتَدَعاتِ. أأقولُ لبنانُ-ثُنائِيَّةُ الحِكمَةِ-المَعرِفَةِ الحُلُمُ-الإتِّزانُ، المُبهِرَةُ إكتِمالاً وًكًمالاً؟ بَل المُكَرَّسَةُ. هُناكُ على تيكَ القِمَمِ الَتي لا تُدانى، غَدَت مَوسومَةً آفاقُ الإمتِداداتِ الَتي إختَلَقاها سُطوعاً.

مِن هَذا الُلبنانُ-العاصي-المنصور، عَوالِمُ إستِثنائِيَّةٌ تُوَجدِنُ المُستَحيلَ وَتُجَوهِرُ الإثباتَ. أفي مُكابَدَةِ الخُصوصِيَّةِ مَزِيَّتُها؟ بَل تَجَذُّرُها. في فَوقَ الفَوقِ، شَرعِيَّتُها مِن وَعيٍ، وَوَعيُها مألَفَةُ غَيرَ المَسبوقِ. وَفي ذَلِكَ كُلِّهِ، وجودٌ مُحًصَّنٌ بالإلحاحِ وَمُتَواصِلٌ بِأبعَدَ مِن حُدودِ الشَهادَةِ.

صلابَةُ الصُعوبَةِ

          ذاكَ المَطلِعَ مِن صَيفٍ، إذ غابَ جِزءٌ مِن عاصي، تَوَحَّدَ تَعَملُقاً الجِزءُ الباقيُ هُنا مِنَ المنصور حَتَّى مَطلِعَ ذاكَ الشِتاءِ. فأكمَلَ وَحيداً وَعاصيهُ وَهجٌ لِمُقاوَمَةِ حِصاراتِ القَلَقِ لِلحَياةِ.

          أجَل! كُلُّ ذاكَ الخَلقُ العَصيُّ-المَنصوريُّ مُتَدَفِّقٌ مِن تِلكَ الصَلابَةِ الَتي تَقتَحِمُ مَدارِكَ الصُعوبَةِ… بالروحِ، بِتَوَثُّبِ الإنتِماءِ الَذي مَتى كُنتَ في حَضرَتِهِ كُنتَ أنتَ الوجودُ وَما بَعدَ الوجودِ.

سَتأتي سُنونٌ كَثرَةٌ قَبلَ أن يُستَوعَبَ إدراكاً، ذاكَ الخَلقُ الَذي لا تَحُدُّهُ نُظُمٌ لِرَحابَةِ لبنانَ. ما هَمَّ، وَهوَ المُنتَهى في خاطِرِ الجَوهَرِ، حَيثُ المَوجوعونَ في إنتِباهٍ الى كُلِّ عَراءٍ. وَكَيفَ لا أكونً أنا هَذا الخَلقُ الُلبنانِيُّ الَذي هوَ مِراسُ المُطلَقِ لإنتِصارِ الإنسانِ عَلى وِحشَةِ الهاوِيَةِ؟ ألَيسَ مِن دونِهِ لبنانُ لَيسَ أنايَ؟ ألَيسَ مِن دونِهِ، العالَمُ إنكِسارُ الزَوالِ؟

          قُلتُ لبنانُ، أقنومُهُما الثالِثُ؟

هوَ الثابِتُ في طُقوسِ تَجِلِّيهِ المُهابَة، حينَ تَناهي الآخَرينَ في إرتِحالٍ مِن غُربَةٍ وَإلَيها.

هوَ تَحريرُ كُلِّ أنا وَكُلِّ الأنا مِنَ المُتَناهِيَ لِيَرفَعَهُما الى صياغاتِ اللامُتَوَقَّعِ، وَقَد سَما بِهِما الى بَهاءِ الفِعلِ في اليَقينِ، واليَقينُ وثوقٌ بالوجودِ.

هوَ عاصي ومنصور الرَحباني، وَكَفى… أيَّاً كانَ مُتَسَلِّطٌ، وأنَّى بُلِغَت ظَلامَةٌ.

*(مُهداة الى أخي أُسامة الرَحباني)

د. ناجي م. قزيلي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.