لبنان الفرح

يَمتَهِنُ البَعضُ الحُزنَ، وَيَحتَرِفُ بَعضٌ آخَر فَرضَهُ. وإستَشرى وَلوَلَةَ أنبياءِ النَدبِ… مِن رِجالِ دينٍ يَبتَدِعونَهُ، فَلا اللهُ فيهِ وَلا الإنسانُ بَل ثَناياهُم ُالمُستَسيغَةُ صَنَمِيَّاتِ التَسَلُّط ِوالإزدِراءِ والمَراراتِ. وَفي تِيهانِ الرِضوانِ، يَجِدونَ مَن أمامَهُمُ يَسجُدونَ يَكيلونَهُمُ التَمجيدَ… وَقَد رَفَعوهُمُ أرباباً على صورَةِ تَشويِهِهِم. أقزامٌ يَنطَرِحونَ الى ما تَحتَ دَوسِ الأرضِ، فَيَبيدونَ وجوهَهُمُ إكراماً لِمُسوخٍ.

لا! لَيسَ هَذا بِلبنانَ. لبنانُ، تُربَةُ الرِضاءِ، لَيسَ رافِعاً لِهَياكِلَ مَيتَةٍ مِن بَشَرٍ تَجتَرُّ عِباداتٍ جانِحَةً. إنَّهُ الفَرَحُ النابِضُ مِن ثَنايا الروحِ. والروحُ لا يَستَكينُ في إستِعبادٍ. لَهُ أن يَتَجَسَّمَ في تَحَدِّيَ النورِ.

أهوَ نَصيرُ الأُلوهَةِ؟ بَل أكثَرُ، هو مِنها وَلَها. نَعَمٌ! هو الفَرَحُ يَجعَلُ اللهَ الكَلِمَةَ-المُتِكَلِّمَ، وَحَسبُهُ أن يُبصِرَكَ فَتُبصِرُ لِتَرتَقيَ مَجداً الى حَضرَةٍ تُجَنِّبُكَ عَثَراتِ الصَنَمِيَّاتِ. ألَم يَعتَرِف فلافيوسُ يوسيفوسُ، المؤَرِّخُ اليَهوديُّ، “أنَّ الُلبنانِيِّينَ-الفينيقِيِّينَ، مُبتَكِري الأبجَدِيَّةِ، إستَخدَموا كِتابَتِها لِتَنظيمِ الحَياةِ”؟.

أهوَ إتقانِيَّةُ المَدلولِ؟ بَل أكثَرُ، هو لَهَا وَمِنها. نَعَمٌ! هو الفَرَحُ يَجعَلُ الإنسانَ يَرتاحُ في ثَباتِ عَدَمِ الإنزِلاقِ الى وَطأةِ الأَقدامِ، فَيُقبِلَ الى الوقوفِ في حَضرَةِ الإِقدامِ. ألَم يَقَتَطِف أوسابيوسُ القَيصَرِيُّ أعظَمَ ما أتَت بِهِ تِلكَ الحَضرَةُ مِن عُلومِ الكَونِيَّاتِ (الكوسمولوجيا) وَتوارِيخَ الزَمَنِ (الكرونوس) الُلبنانِيَّةِ-الفينيقِيَّةِ، المَلفوحَةِ بالأُلوهَةِ وَيَقينِ الإنسانِ؟.

هو الفَرَحُ-لبنانُ مَسألةً لِلمُحَقِّقِ في هَوِيَّتِهِ، وَهو سِرُّ لِلمُتَسائِلِ عَن فِعلِهِ. بِذَلِكَ، نَطَقَ عَبديمونُ بِحِكمَتِهِ الُلبنانِيَّةِ-الفينيقِيَّةِ، الآخِذَ عَنهُ، مُقَلِّداً، ناقِلاً، مُقتَبِساً، سُلَيمانُ مُعاصِرُهُ، على ما كَشَفَهُ يوسيفوسُ عَينُهُ في “الكرونيكاتِ (الحَولِيَّاتِ) الصورِيَّةِ” الآخِذَها بِدَورِهِ عَن ميناندريس المُؤَرِّخِ الهِلِنِستيِّ.

هو لبنانُ-الفَرَحُ هَوِيَّةُ الماهِيَّةِ وَماهِيَّةُ الهَوِيَّةِ. يَنتَظِرُهُ كُلُّ أحَدٍ لِيَصيرَ بِهِ مِن كُلِّ أحَدٍ… وَلِكُلِّ أحَدٍ، فَلا يَبقى مَجهولاً وَلا يَصيرَ مَنبوذاً. مَعَهُ وَبِهِ، لا تيهَ، إذ الإِنسانُ يَغدو رامِزاً وَمَرموزاً، دالَّاً وَمَدلولاً، يُشيعُ في الأرضِ تَشيِّيدَ القُدرَةِ. بِذَلِكَ، تَشهَدُ غُربَةُ فرومِنتيوسَ الصورِيَّ القِدِّيسَ، المُعادِلَ لِلرُسُلِ، رَسولَ الحَبَشَةِ (أثيوبيا) (+380) وأداسِيوسَ شَقيقَهُ، في رِحلَتِهِما الإستِكشافِيَّةِ على سَواحِلَ البَحرِ الأحمَرِ بِرِفقَةِ مواطِنِهِما العَلامَّةِ ميروبيوسِ، حينَ رَمَتهُمُ عاصِفَةٌ على شاطِىءِ الحَبَشَةِ، فَنَقَلا مَعرِفَتَهُما وإيمانَهُما لِسكَّانِها. وَلَمَّا تَبَوَأ وَلِيُّ عَهدِها الحُكمَ، أقَرَّ لِفرومنتيوسَ، مُعَلِّمِهِ، هِدايَةِ شَعبِهِ مِنَ الضلالِ. وَفيما عادَ أداسِيوسُ الى صورَ، رَسَمَ القِدِّيسُ أثَناسيوسُ فرومِنتيوسَ أوَلَّ أسقُفٍ على تِلكَ الأرضِ.

التأصيلُ في الميراثِ

مِنَ الجُذورِ الى المُنعَطَفاتِ، وَحدُهُ لبنانُ لا تَرَدُّدَ فيه لِخِصبِ العُقولِ، بَل تأصيلٌ في الميراثِ الَذي يَنمو حَتَّى في العَراءِ، في وِحشَةِ التَغَرُّبِ، رَونَقَ عُذوبَةٍ تَلهَجُ بالرؤى وَتَتَكَلَّمُ بالتَطَلُّعاتِ. هو الفَرَحُ الغامِرُ يُعطيها أن تَكتُبَ قِصَّةَ شَعبٍ لا يَتَحَرَّقُ في الزَمَنِ بَل يَحفَظُهُ مُوَطَّداً مِن كُلِّ إنحِسارٍ.

ألَيسَ بِذَلِكَ التأصيلِ تَمتَدُّ تأدِيَةُ الشَهادَةِ على الأرضِ سِرَّاً مُقَدَّساً، هو لِلتاريخِ بِحَجمِ مواجَهَةِ الإمِّحاءِ؟ الكَلِمَةُ لا تَعرِفُ بَعثَها وَلا تُدرِكُ جَذوَتَها إلَّا بالفَرَحِ الذي يُحييها. وَلبنانُ مُوَلِّدُ هَذا الفَرَحِ… الذي لا يَغرُبُ بِفِعلِ سارِقٍ لَهُ، وَلا نَتيجَةَ عاصِفَةٍ تَتَمارَدُ عَلَيهِ، وَلا بِحَبكَةٍ مِن بَراثِنَ نَدبٍ.

قُلّ: لبنانُ الفَرَحُ أُمَّوِيَّةٌ تَغوصُ على المَدى. وَلِكي لا يَبقى أحَدٌ مَنفِيَّاً مِن ذاتِهِ، هو يُعطي ذاتَهُ وَمِن ذاتِهِ. الفَرحُ لبنانُ كأسٌ مُقَدَّسَةٌ فيها الإلَهِيَّاتُ تَلمُسُ الإنسانِيَّاتِ وَتَذوقُها.

بِذَلِكَ لبنانُ يَنَتَشِلُكَ الى مَوئِلِ الجَبابِرَةِ… بِسَجدَةِ الوِقفَةِ الفَريدَةِ.

د. ناجي م. قزيلي

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.