يونان في رسالة الصوم: مسيرة فرح بالتوبة والالتزام ولنا ملء الإيمان بالرب ولمسته الشافية

وجه بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي اغناطيوس يوسف الثالث يونان، رسالة الصوم الكبير 2021 بعنوان “أريد فاطهر”. قال فيها: “زمن الصوم هو الوقت المقبول الذي فيه يمنح الله مؤمنيه الفرصة للإستعداد للاحتفال بآلامه وموته وقيامته بفرح، متجددين بالروح، لكي ينهلوا من سر الفداء ملء الحياة الجديدة في المسيح، وينعموا بالخلاص الذي تم من خلال سر المسيح الفصحي: لأننا في الرجاء نلنا الخلاص. في زمن الصوم، نمتنع عن تناول بعض الأطعمة، كالانقطاع عن الطعام واللحوم والبياض وسواها، كما نقرن صومنا برفع الصلوات الحارة، والمشاركة في الصلوات الطقسية، وممارسة أعمال الرحمة، والاهتمام بالمحتاجين، من خلال التقشف والتخلي عن بعض الملذات لمساعدة من هم أشد فقرا وعوزا. وهكذا يعود زمن الصوم بكنوزه كل عام، لكي يقدم لنا فرصة جديدة من أجل حياة أفضل ملؤها البركة والخير، والنمو في الفضائل الروحية، والتحرر من المادية المهيمنة في عالمنا. فالصوم هو زمن الجهاد الروحي بامتياز، إنه محطة سنوية للتجدد بالإيمان، من خلال الممارسات التقوية والعودة إلى الذات في سبيل التوبة”.

أضاف: “نحن مدعوون لنعيش فعليا كأبناء لله وكأحبائه. والصوم هو فترة فرح، نكتشف بنوتنا لله التي حصلنا عليها بيسوع المسيح. فالهدف الحقيقي من فترة الصوم هذه، قبل كل شيء، هو إعداد الناس للاحتفال بموت المسيح وقيامته. هذا الزمن هو الوقت المناسب لتهذيب الروح وإزالة رواسب الخطيئة من حياتنا، فالصوم هو أفضل وسيلة للاعتراف بسمو الله، كما أنه، مع الصلاة والصدقة، إحدى الوسائل التي تبين أمام الله تواضع الإنسان ورجاءه وحبه. ونحقق ذلك من خلال خلق الرغبة والعزم على فعل مشيئة الله وجعل ملكوته يأتي في المقام الأول في قلوبنا. فالصلاة ليست مجرد ترداد بعض الكلمات والعبارات، والصوم ليس فقط الامتناع عن الأكل، والصدقة ليست مجرد عطاء مادي للآخر، بل الأساس هو أن نفرغ ذواتنا من كل ما يحجبنا عن الله والقريب والذات، منتظرين مجيء العريس القائم من بين الأموات. لذلك ارتبط الصوم بالقيامة في الكنيسة، فالصوم هو مسيرة تحرر وموت عن الذات، لكي نستطيع عيش القيامة”.

وتابع: “الصوم مسيرة فرح بالتوبة والالتزام، ونداء يسوع في بدء رسالته العلنية: لقد اقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل. يلخص مبدأ زمن الصوم الذي هو مسيرة ارتداد وجهاد ضد الشر. إنه زمن توبة أي رجوع للآب، ولكنه ليس زمن حزن! إنه التزام فرح وصدق لكي نتخلى عن أنانيتنا، وعن الإنسان القديم، ونتجدد بحسب نعمة معموديتنا. فوحده الله بإمكانه أن يعطينا السعادة الحقيقية، وملكوت الله ما هو إلا تحقيق طموحاتنا، وفي الوقت عينه خلاص الإنسان ومجد الله. من هنا، نحن مدعوون لنصغي إلى نداء يسوع هذا بأن نتوب ونؤمن بالإنجيل. نحن مدعوون لنبدأ بالتزام المسيرة نحو الفصح، لنقبل أكثر فأكثر نعمة الله الذي يريد أن يحول العالم إلى ملكوت عدالة وسلام وأخوة. وهذا ما نراه عند الأبرص الذي يتحدث عنه مرقس البشير في بداية إنجيله. حمله إيمانه وثقته بالله إلى تخطي شريعة عزله عن الجماعة، ماثلا أمام يسوع، وملتمسا بكل تواضع وثقة: إن شئت، فأنت قادر أن تطهرني. فتحنن يسوع عليه ومد يده، فلمسه وقال له: أريد فاطهر. وفي الحال زال عنه البرص. من هنا، فإن زمن الصوم هو زمن لقاء المؤمن برحمة الله. لم يكن البرص مرضا كغيره، فبسبب طابع العدوى والهلع الذي يسببه في الجماعة، كانت تحيط به سلسلة من المحرمات. يصبح الأبرص محروما من العيش مع الآخرين والاتصال بهم، ومنبوذا منهم. ولكي يمارس هذا الفصل عن المحيط بشدة، ختمه تحريم ذو طابع ديني: فالأبرص يعلن نجسا. هو لا يستطيع أن يشارك الجماعة في شعائر العبادة، لذا لا يمكنه أن يقترب من الله الذي يقيم في الهيكل، لئلا ينجسه. بل إن كل من يقترب من الأبرص ويلمسه، يتنجس بدوره. وبما أن البرص هو مرض ديني، فالكاهن هو الذي يكشف على المريض في البداية ليتعرف إلى المرض، وفي النهاية يعلن الشفاء. فالكاهن وحده يستطيع أن يحكم على الطاهر والنجس بحسب الشريعة”.

وقال: “أضحى البرص شبيها بالخطيئة، فكما أن الكاهن هو الذي يعلن طهارة المريض الجسدية بعد الكشف عليه، فالكاهن أيضا يخلص الخاطىء من خطيئته من خلال منحه الطهارة الروحية. وحين يشفى الأبرص، عليه أن يقدم ذبيحة قبل أن يدخل إلى الجماعة، وهذه الذبيحة هي شبيهة بالذبيحة من أجل الخطيئة. إن البرص هو للجسد ما هي الخطيئة للنفس. بطريقة أخرى، كما أن البرص ينجس الإنسان، كذلك تفعل الخطيئة. وهكذا تصبح الخطيئة خطيرة كالبرص، وعدوى تؤثر على الآخرين. كشف يسوع، بقبوله الأبرص وشفائه من برصه، عن وجه جديد لله، وجه الأب الحنون والإله الكلي الرحمة والحب. لقد اقترب الأبرص من يسوع، كان شخصا مستبعدا، منبوذا ونجسا. كل من يلمسه يصبح نجسا أيضا! لكن ذلك الأبرص كان يتمتع بشجاعة كبيرة. لقد تحدى حظر الشريعة ليتمكن من الاقتراب من يسوع، فجثا على ركبتيه متوسلا: إذا أردت، يمكنك أن تشفيني. لا تحتاج لمسي! يكفي أن تريد، وسأشفى!. هذه العبارة تبين لنا بالدرجة الأولى إيمان الأبرص العظيم بقوة يسوع. ولكن في المقابل، تكشف لنا أيضا نوعين من المرض أو “من الشر” عانى منهما هذا الشخص: لقد عانى من شر المرض أي البرص الذي جعله نجسا، وكذلك من شر العزلة التي حكم عليه بها المجتمع والدين، ويسوع شفاه من الإثنين. قام يسوع بلمس الأبرص، فشفاه من الوحدة. وكأنه يقول له: بالنسبة لي، أنت لست منبوذا. فأنا أقبلك كأخ! ثم شفاه من علته قائلا: أريد فاطهر. يتأمل مار يعقوب السروجي بأعجوبة شفاء يسوع للرجل الأبرص، والتي تحييها الكنيسة السريانية في الأحد الثاني من الصوم الكبير، فيقول: “دنا الرجل المملوء برصا من مخلصنا، وكشف برصه ليسوع طالبا منه أن يشفيه. رأى الحنان الشقي الذي آمن فشفى برصه، وبهتت الجموع وسبحت الإبن بصوت عظيم”.

أضاف: “لم تنتقل عدوى البرص إلى يسوع، بل انتقلت قوة النعمة الإلهية إلى الأبرص، وطهرته من برصه. فالحب الإلهي الذي تجلى على الصليب هو الذي يعدي المرضى ويشفيهم ويطهرهم، وهو يعطي التغيير شكل التطهير لجسد الأبرص من كل قروحه. لم يخالف الأبرص الشريعة عندما حضر وسط الجماعة، بل جاء إلى سيد الشريعة، طالبا أنسنتها، وتلطيفها بالرحمة، فإن السبت جعل للانسان، وما جعل الإنسان للسبت. ويسوع لم يخالف الشريعة عندما لمس قروح البرص، بل رفعها إلى كمالها. لم يأت يسوع ليبطل، بل ليكم. في الواقع، بعد أن شفى يسوع الأبرص، أمره العمل بموجب شريعة موسى، أي أن يري نفسه للكاهن، لكي يعلن طهره ويعيده إلى الحياة في الجماعة، وأن يقدم القربان عن طهره. هكذا يجري يسوع التغيير في نفس التائب، ويزيل الخطيئة التي تشوهه، مصالحا إياه مع الله ومع مجتمعه ومع ذاته، معيدا له كرامته ومكانته الإنسانية. إن الرب يسوع يشفي من الخطيئة بكلمة رحمته، عندما يطلبها التائب بإيمان، وبقلب تائب. من أجل هذه الغاية، أسس سر التوبة، ومنح الكاهن سلطان الحل وشفاء النفس بإسم محبة الله الآب، ونعمة الإبن الفادي، وحلول الروح القدس ناقل الحياة الجديدة”.

وتابع: “تدل آية شفاء الأبرص على أن الصوم الكبير مسيرة تغيير مثلث في العلاقة: مع الذات والله والناس. فالأبرص طهر من برصه مسترجعا جمال طبيعته البشرية، وتصالح مع الله مقدما قربان التكفير، وعاد إلى حياة الشركة مع الجماعة. الصوم هو زمن الخلاص الشامل، نبلغ إليه بالعبور الفصحي من قديم إلى جديد، بدفق محبة الآب، وفعل نعمة الإبن، وحلول الروح القدس، كما جرى للأبرص. يؤكد قداسة البابا فرنسيس في رسالته بمناسبة زمن الصوم الكبير لهذا العام 2021، بعنوان ها نحن صاعدون إلى أورشليم: الصوم الأربعيني: زمن تجديد الإيمان والرجاء والمحبة، على أن: الصوم الأربعيني هو زمن الإيمان بالله، أو زمن قبوله في حياتنا والسماح له بالإقامة معنا. الصوم يعني أن نحرر حياتنا من كل ما يثقلها… لكي نفتح أبواب قلوبنا للذي يأتي إلينا فقيرا في كل شيء، ولكن ملؤه النعمة والحق: ابن الله المخلص”.

وقال في رسالته عن مساندة الآخر بعيش المحبة في هذه الظروف الصعبة: “إن عيش الصوم الأربعيني بالمحبة يعني الاهتمام بالذين يعيشون في حال معاناة أو تخل أو ضيق بسبب جائحة فيروس كورونا… فلنقدم مع محبتنا كلمة ثقة، ونجعل الآخر يشعر أن الله يحبه مثل ابن له. وكم هو معبر، في هذا السياق، قول مار بولس رسول الأمم: فليملأكم إله الرجاء بالفرح والسلام بالإيمان، لتزدادوا فيه رجاء بقوة الروح القدس”.

أضاف: “في هذه الأيام العصيبة، يجتاح وباء فيروس كورونا العالم بأسره، مخلفا القلق والذعر، وفارضا التباعد الاجتماعي، لا بل العزلة والوحدة في أحيان كثيرة خوفا من انتقال العدوى، فضلا عن الأضرار الجسيمة في الأنظمة الاقتصادية والمعيشية وحياة المجتمعات والشعوب. ما أشبه حالة المصابين بهذا الوباء بذاك الأبرص الذي شفاه يسوع بمشيئته القدوسة وقدرته على منح الشفاء، فعاد سليما معافى، بعد أن كان معزولا ومهمشا يجابه بمفرده الوحدة القاتلة. ومع تشديدنا على ضرورة التزام كل التدابير الوقائية لتفادي الإصابة بهذا الوباء والحد من انتشاره وفتكه بالبشر، إلا أن لنا ملء الثقة والإيمان بالرب يسوع ولمسته الشافية، فهو وحده القادر أن يشفي كل مصاب، لا بل أن يبيد هذا الوباء ويزيله. نصلي ضارعين إلى الرب يسوع، الطبيب السماوي، الذي لمس الأبرص فشفاه، أن يلمس المصابين بهذا الوباء فيشفيهم، ويرحم أولئك الذين غادروا عالمنا من جرائه، ويلهم الأطباء وأصحاب الاختصاص إلى إيجاد العلاج المناسب. ونسأله تعالى، بشفاعة أمه وأمنا مريم العذراء سيدة النجاة، أن يحمي العاملين في القطاع الطبي، والذين يبذلون ذواتهم في سبيل تأمين الخدمة الملائمة لهؤلاء المرضى، معرضين حياتهم وحياة ذويهم للخطر”.

وتابع: “خير ما نختم به صلاة نستوحيها من طلبة القديس أفرام السرياني في زمن الصوم، ونحن نحيي مئوية إعلانه ملفانا للكنيسة الجامعة، والذي تم من البابا بنديكتوس الخامس عشر العام 1920: أيها الصالح الذي يرتضي بالتائبين إقبل صوت توبتنا، وامنحنا المراحم والحنان من كنزك الثمين… أيها السيد الذي صام لأجل عبيده تقبل صومنا لراحتك. ولترتض ألوهتك بخدمة الأرضيين، ولتقبل طلبتنا أمام عظمتك يا ابن الله. اغفر ذنوب رعيتك وأبعد عنها الضيقات… أجز عنا الشرور والضربات وقضبان الغضب… وليكن صليبك سورا يحفظنا من الشرير”.

وختم يونان: “نسأل الله أن يتقبل صومكم وصلاتكم وصدقتكم، ويؤهلنا جميعا لنحتفل بفرح قيامته من بين الأموات. ونمنحكم، أيها الإخوة والأبناء والبنات الأعزاء، بركتنا الرسولية عربون محبتنا الأبوية. ولتشملكم جميعا بركة الثالوث الأقدس”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.