سلوان عاشِقُ المسيح
مَا أن أُعلِنَت قَداسةُ القِدِّيس سلوان الآثوسي مِن قِبَلِ المَجمعِ المُقدّسِ القسطنطينيّ في ٢٦ تشرين الثاني ١٩٨٧م، حتّى تَهافتَ المؤمنونَ شَرقًا وغَربًا، أرثوذكسيّون وغيرُ أرثوذكسيّين، على قِراءةِ ما دَوَّنهُ وجَمَعهُ تِلميذُهُ الأرشمندريت صفروني حَولَ سيرةِ القدّيسِ وأقوالهِ وتعاليمِه، كأنّهُ بِذلكَ أضحى “تسونامي روحيّ”.
باتَت سِيرَتُهُ على كُلِّ لِسان. كأنَّه بإعلانِ قَداسَتهِ طَرقَ أبوابَ قُلوبِ الناسِ مُرَدِّدًا على مَسامِعِهم ما كانَ يُردِّدُه دَائمًا في صَلاته، وهو أن يَكتَشِفَ العالمُ أجمعُ ما اكتشفَهُ هوَ مِن جَمالٍ وعُذوبةٍ في وَجهِ الرَّبِّ يَسوعَ المسيح، وأن تَعرِفَ البَشَريّةُ جَمعاءُ الرَّبَ إلهًا بالروحِ القدس.
عَن عُمرٍ يُناهزُ السَبعينَ سَنةً، وقَبلَ رُقادِه، كَتَبَ سلوان مُخاطِبًا العَالمَ: “أيُّها الناس، أَكتُبُ هَذِه الكلماتُ بِدُموعٍ: رُوحِي تُريدُكم أن تَلتقوا بيسوع، وتتأمّلوا نعمته ومجده”.
تُرى مَا الذي جَعلَ شَخصًا فَلَّاحًا أتى إلی اليونانَ مِن روسيّا، ليترهّبَ ويتنسّك في الجبلِ المقدّسِ آثوس طالبًا السَكينةِ والتَسَتُّر، أن يَدخُلَ قُلوبَ كثيرينَ ويَفلَحها بالروحِ القدس؟ الجَواب: لقد أضحى مَسْكِنًا للروحِ القدسِ بعُشقِه للصلاة، وعيشه الهُدوئيّة البَعيدة كلَّ البُعد عن الكِبرياء وحبِّ المظاهرِ وإظهارِ الذَّات المُتَوَّحِشة، التي تَقتل الآخرين لتَبرزَ هِي، وفي النهايةِ تَقتل نَفسها.
كان سلوان مِثالًا لِبَذلِ الذاتِ على غِرارِ سَيِّده الرَّب. وَصَفُه كلّ مَن عَرَفه، أنّه بِمُجَرّد لقائكَ بِه، تَلمُسك مَحبّةٌ جارفةٌ عذبة، ويغمرك حنانٌ كبير، فتحتار بأمرك عندما تجد نفسك واقفًا أمام شخص قويّ البنيّة وصَلْب، يعمل بكدٍّ وجدّيّة تامّة. إنّه حازِمٌ لا يُساوِم، ولكنّه في الوقتِ نَفسهِ شَخصٌ مُرهَف الإحساس، وعَطوفٌ للغاية.
هناك أيضًا أمرٌ آخر مُحيّرٌ وهوَ كيفَ استطاعَ شَخصٌ بَسيطٌ في تَحصيلهِ العِلميّ أن يَجذُبَ مُثقّفينَ كبار، وأصحاب شَهاداتٍ في اللاهوتِ وغيرِها مِن الاختصاصات، ومِن جِنسيّاتٍ مُختلفة، رُهبانًا وإكليريكيينَ وغير إكليريكيين، كانوا يَقصُدونهُ للمنفعةِ الروحيّةِ والمَعرفةِ الإيمانيّة!؟ الجواب: لقد استطاع ذلكَ لأنّهُ كانَ صادقًا مَع ذاته، يُطبِّقُ ما يُصلّيه، ويَعيشُ ما يَقرأه، فباتَ إنجيلًا حيًّا.
ليسَ هذا التضادّ غَريبًا عَن المسيحيّةِ على الإطلاق، بحيث يأتي الرَّبُ على رأسِ اللائحةِ في ذَلك. فالربّ يَسوع إلٰه. أخذَ بِتَجسّدهِ طبيعةً بَشريّةً كاملة، وارتضى أن يُولَدَ في مِزودِ البهائمِ مِن أُمٍّ بقيت عَذراء، وهو ملكُ الملوكِ وربُّ الأرباب. وَسِعَته أحشاءُ امرأةٍ طاهرة، هو الذي لا يَسعَه مَكان. قَبِلَ طوعًا أن يُجلَدَ ويُبصقَ عليه، وهو الإلٰهُ الجبّارُ والقويُّ الذي غَلَبَ الموتَ بالموتِ وقام مِن بينِ الأموات.
1 .١٨٦٦-١٩٣٨م – نقيم تذكاره في ٢٥ أيلول – يوجد دير على اسمه في دوما يرأسه الأرشمندريت توما (بيطار) – مدبّر عائلة الثالوث القدّوس – https://holytrinityfamily.org.
2 . أعلنت البطريركيّة المسكونية قداسته في ٢٧ تشرين الثاني عام ٢٠١٩م.
هنا أستشهدُ بِما أتى في كِتابِ القدّيس سلوان الآثوسي حَولَ “الكلامُ الإلهيُّ ومَحدودِيّة قُدُراتُ المَخلوق”: “إنَّ كلامَ المَسيحِ هو الأكثرُ أسراريّة مِن كلِّ كَلام، لا يُختَرَق حتَّى لدی ذوي الذكاء الفائق، وفي الوقتِ عينه هو بسيطٌ وواضحٌ وفي متناولِ الجميعِ حتَّى لدی الأطفال”. وأيضًا، “إنَّ كلامَ المسيحِ رقيقٌ وعذب، وفي الوَقتِ عَينه كلام سُلطان مُطلَق”.
تضادٌ مُدهشٌ عجِزتْ عن إدراكهِ العُقول، ولكنَّ مَن ينظر إلى ثِماره، وأوّلهم القِدّيسين، يَعي أنّ هناكَ شَيئًا يَختَلِف عن المِنطق البَشريّ المحدود.
أتوقّفُ هنا أمامَ مَقولةٍ ظَهرت في كتاباتِ ترتليانوس (١٦٠-٢٢٠م) في الدفاعِ عن شخصِ المسيح الإلٰه – الإنسان، ومَوتِه وقيامَته، والتي خَضَعت لِتأويلاتٍ مُتَعدِدة: “أؤمنُ لأنَّهُ فيه تَضادّ/ غير مدرك/ غير معقول/ مُنافٍ للعقل”.
عقلنا البشريّ أعَجز مِن أن يُدرِك مَنطِقَ الله وتدبيرِه الخلاصيّ لنا.
كذلك، قالَ العَالِمُ الكبيرُ والمؤمنُBlaise Pascal (١٦٢٣-١٦٦٢م) : “للقلبِ (الإيمان) حُججه التي لا يِعرفها العَقل “.
كَلِمةُRaison في أصلِها اللاتينيّ (ratio)تَدلُّ على مَجموعةِ عمليّاتٍ حِسابيّة Faculté)) يَقومُ بِها الإنسانُ لِيفهمَ أمرًا ما، ويَحكمَ عليه. هذا لا يَستطيعُ المُخلوقُ أن يُطبِّقه على الخَالِق، وإلّا دَخلنا في الشططِ والضَياعِ.
هذا ليسَ تَحقيرًا للعِلمِ والمَعرِفة إطلاقًا، بل هوَ اعترافٌ عِلميّ بَحْت بأنّ مَبدأَ الحياة ليسَ مِن صُنْعِ الإنسان. وهنا تأتي مَقولةٌ أخرى رائعةٌ للكاتب الفرنسي Antoine de Rivarol)١٧٥٣- ١٨٠١م): “قليلٌ مِن الفلسفةِ يُبعِد عن الدين، وكثيرٌ منها يُقرّب من الدين”.
بِالعَودةِ إلى القدّيسِ سلوان، فهوَ يَذكرُ حادثةً حصلت في صِغره أثّرَت فِيه كثيرًا، ورافقتهُ سَنواتٍ عِديدة، حتَّى بعدَ دُخولِه الرهبنة، وهي أنّ والدَه استضافَ مَرَّةً رجُلًا يَعتبِرُ نفسَه مثَقَّفًا جِدًا، كان قد قَصدَ قَريَتهم ليبيع الكُتب. دارَ بينهما حَدِيثٌ إيمانيٌّ على العَشاء، وكان سلوان جَالسًا يُصغي. حاولَ الرجلُ بكلِّ ما يَملِك مِن مَعرفة، أن يُقنعَ والدَ سلوان بأنّ الرَّب يسوع المسيح ليسَ إلهًا، وبأنّ الله أصلًا غير موجود. وبعد مُغادرة الضيف، سأل سلوان أباه: “هل ما قاله الرجل صحيح؟” فأجابه والده: “لا تأبه لكلامه”.
هذا الضيفُ هو ضَيفُ كلّ الأزمان. ولا عَجَبٌ إن قُلنا لا يوجد إلحاد بل “لا إدراكAgnosticisme”.
خلاصة، دورنا أن نَماثلَ القدّيس سلوان الآثوسي على قدرِ استطاعتنا ومَواهبنا، وإن عشنا المسيح بِصدقٍ وعشق، نستطيع أن نُدخلَه إلى قلوبِ مَن نَلتقي بِهم.
3 . نقلته إلى العربية الزم مريم (زكا) – رئيسة دير القدّيس يوحنا المعمدان – دوما – عائلة الثالوث القدّوس.
4 .”Le cœur (La foi) a ses raisons que la Raison ignore”
خِتامًا، ما أجمل ما قاله قدّيسُنا: “إذا عَرفَ شخصٌ ما اللهَ بالروحِ القدس، سوف تشتعل رُوحُه بِحبِّ لله نهارًا وليلاً. ولا يمكن لِروحِه أن ترتبطَ بأي شيءِ أرضيّ”، موكّدَا أن الله لا يُعرَف إلّا بالروحِ القدس والتواضعِ وعيشِ وصاياه.
بِهذا يكون القِدّيس سلوان الآثوسيّ قد أجابنا علىمَقصدِ وجودِنا في هذه الحياة، وهو:”أن نكون “عُشّاق المسيح”.
إلى الرّب نطلب.
الأب أثناسيوس شهوان