لبننة اللبنانيِّين
أن يَنفُذَ لبنان الى الصَميمِ، تَلكَ هيَ رِسالَتُهُ. وأن يَتَلَبنَنَ اللبنانيّونَ، تِلكَ هيَ دَعوَتُهُم. وفي صَميمِها: شُمولِيَّةُ الوَعي وَتَعميرِيَّاتِ الكَينوَنَةِ. وَلَيسَت تِلكَ مِنَ المُستَحيلاتِ، مَتى إقتَنَعوا أنَّ الطَليعِيَةَ في وجودِهِم لَيسَت في التَشرُّقِ وَلا في التَغَرُّبِ، ولا في الإستِلحاقِ بإيديولوجيَّاتٍ بَل في الوَلائيَّةِ للبنان، وإنطِلاقاً مِنها دَعوةَ الشَرقِ والغَربِ الى التَلَبنُنِ.
مُعضِلَةُ اللبنانيِّينَ أنَّهُم شاؤوا ألَّا يَكونوا البُرهانَ فَغَرِقوا في التَناقُضِ، وَعاموا في المَرئيَّاتِ فَخَسِروا العُمقَ، وَغاصوا في إستيطانِ الطارِىءَ فإعتَزَلوا الفَوقَ وَما بِهِ تُبتَكَرُ الحَقيقَةُ. وَحاضِرُهُم قَبلَ ماضيهِم شاهِدٌ على المَدى الذي بَلَغَهُ إنكارُهُم لِذاتِهِم. وَمَن يُنكِرُ ذاتَهَ يَلفُظُهُ الواقِعُ وَيَنتَفي مِنهُ الآتي… وَهُم بَعدَ أن حَلَّقوا، عادوا ليِندَثِروا في كُهوفِ ذواتِهِم وأقبيَةِ أنفُسِهِم، حَيثُ الغَطيطُ مُرادِفٌ لِلمَوتِ.
ما هيَ بَعدُ فائِدَةُ اللبنانيِّينَ، إن باتوا لا شَيءَ، في وَطَنٍ هوَ الكُلُّ لِلكُلِّ؟ خُطورَةُ السؤالِ تَكمُنُ في أنَّ جِبالاً كَثيرَةً تَقِفُ مُنتَظِرَةً مَن يَقولُ لَها: “إنتَقِلي!”، لِتَنتَقِلَ… وَلا لِسواهُم أمرُها.
وَهُم إن إستَمَرّوا هَكَذا إنَّما يُضَحُّونَ بأخطَرِ ما يُمكِنُ لِمَصيرٍ أن يَنحَدِرَ إلَيهِ، قُبَيلَ الزَوالِ. والمَصيرُ هُنا لا مَصيرَهُم فَحَسبُ، بَل مَصيرُ البَشَريَّةِ في ما هيَ، قَبلَ أيِّ شَيءٍ، وجودٌ إنسانيٌّ.
هذا ما يُقلِقُني، حينَما أرى شَبابَ لبنان وَصباياهُ غائِرونَ في الإبهامِ والإيهامِ، في الغُموضِ والسَطحيَّةِ، في المُناكَفاتِ والتسايُفِ بالفَراغاتِ. لا مَروياتَ لَدَيهِم سِوى بُبَغائيَّاتِ عُميانٍ يَقودونَهُم الى السَلبِ، وَمُجرِمينَ يَتقاتَلونَ بِهِم في سَبيلِ الإرتِواءِ مِن دِمائِهِم، بَعدَما طافوا بِهِم خارِجَ الفِعلِ، وَرَموهُم في رُدودِ أفعالٍ حَيوَنَتهُم فأردَتهُم.
وأتساءَلُ: هَل تِلكَ الجُثَثُ المُتسابِقَةُ الى الهُروبِ مِنَ المواجَهَةِ والتَهَرُّبِ مِنَ البُطولَةِ، هيَ لأحفادِ مَن أحيا الرَميمَ وأعادَ صِياغَةَ العَرَبيَّةِ، لُغَةً وَمَدارِكَ، وأدخَلَ العُروبَةَ في الحَداثَةِ، بَعدَما إنحَبَسَت في زَنازِنَ التَدَيُّن الحَرفيِّ وَديكتاتوريَّاتِ التَعَفُّنِ؟ هل هيَ لأحفادِ مَن إبتَدَعَ لَلغَربِ أغماراً أبيَنُ مِن أن تُبَيَّنَ، بَعدَما تاهَ بِينَ الواقِعِ والمِثالِ ليَنتَهيَ في عِقَدِ التَشَيُّءِ تَنويهاً لإدمانِهِ التِصادُمَ مَعَ الألوهَةِ؟.
البُرهانُ
أنا حينَ صَحارى الشَرقِ تَنمو أزهاراً كاذِبَةً مُرتَضيَةً بالمُخادَعَةِ صِنوَ التَطَوّرِ، وَحينَ صَحارى الغَربِ تَنمو مُعادَلاتٍ لا تَتَذَهَّنُ مُرتَضيَةً بالأضاليلَ صِنوَ التأنسُنِ، لا أرتَضي لِشَعبيَ أن يَكونَ إلَّا كَما أفهَمُهُ: هوَ الدالُّ وَهوَ المَدلولُ، هوَ البُرهانُ الغائيُّ، الفاعِلُ النائيُّ. قياسُ الوضوحِ وبُلوغُ الرَبطِ بَينَ المُسَلَّماتِ الجِرّيدَةِ والمُجاهَراتِ الحُرَّةِ.
وإذ وَحدَهُ لبنان، دونَ سائِرِ التَكاوينِ، قادِرٌ على تَحريرِ الشَرقِ مِن سرابِ مَخاديعِهِ، والغَربُ مِن عَبَثِ مَضاليلِهِ، وإذ هوَ وَحدَهُ، دونَ سائِرِ صَمَدانيَّاتِ المَسكونَةِ، قادِرٌ على تَحريرِ الإلوهَةِ مِن زيفِ البَشَرِ، والبَشَرِ مِن تَزييفِ الألوهَةِ، فإنَّ على اللبنانيِّينَ أن يَكونوا، في إبتِداعِ الحَقِّ عَساوَةً، وَفي مُجابَهَةِ الباطِلِ صَلابَةً. بُطولَتُهُم-البُرهانِ أن يَبقوا هُمُ الوَعرُ والمَلاذُ. هُمُ اليَقظَةُ والمَشيئَةُ. هُمُ صِدقُ ذا الحُبُّ النادِرُ لِمُتَساوينَ: العَهدُ بَينَ السَعيِّ الأرضيِّ والآفاقِ السَماويَّةِ، لا يؤَلِّهُ عَبداً وَلا يَتَألَّهُ بإستِعبادٍ.
عَهدٌ ذاتيَّتَهُ بِذاتيَّتِهِ، مُستَمِدَّاً نِسبَتَهُ الى أرضِهِ، لا مِن جِنسٍ وَلا مِن عِرقٍ وَلا مِن لُغَةٍ وَلا مِن دينٍ.
عَهدٌ عَطائيٌّ داني القُطوفِ، يَدَّخِرُغِلالَهُ لِذاتِهِ وَلتَحريرِ العوالِمَ مِن جَبريَّاتِ إلغائيَّاتِها.
بِهِ يُصبِحُ لبنان وَطَناً تَكوينيَّاً، نِهائيَّاً، إجماعَ المُنطَلَقِ والتَدليلَ لِما هوَ كائِنٌ وَسَيَكونُ.
د. ناجي م. قزيلي