يوحَنّا المَعمَدان: لاهوت وأيقونة

أن يكونَ للقدّيس يوحنا المَعمدان سِتّةُ أعياد[1] في السنة، هذا ليس بأمرٍ عابِر على الإطلاق. فإنَّ سيرَتَه نافعةٌ جِدًّا، وهوَ مثالٌ يُحتَذى به في مَسيرةِ حياتِنا وجِهادنا. فلا عجبٌ في أن تكونَ الكنيسةُ المقدَّسَة قد جعلَت كلَّ يومِ ثلاثاء، على مدار السنة، تَذكارًا له.

لم يساوم قدّيسُنا على الحقّ، بل استشهَدَ مِن أجله. وَلأنَّه عَشقَ الحَقَّ، صارَ مِن نصيبِ “الحقّ” الذي هو يسوع: “أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ”(يوحنا ٦:١٤).

فَهذِهِ الكلماتُ الثلاثُ، عاشَها القِدّيسُ يوحنّا المَعمدان بِملئِها، فَأضحى عَلَمًا في الصِّدقِ والشَجاعَة والاستِقامَة. فنتعَلُّم منها ما يَلي:

الكلمةُ الأولى هي “الطَّريقُ”: يسوع هو الطَّريقُ المُستقيم. هذا ما كان عليه قِدّيسُنا. يكتب الإنجيليُّ متّى عن يوحنّا أنّ بِه قد تحقّقت نبوءَةُ إشعياء النبيّ (إش٣:٤٠): “صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً.” (متّى ٣:٣). كان صوتُه مُدَوٍّ ضِدَّ كلِّ اعوجاجٍ.

الكلمة الثَّانية هي “الحَقُّ”: كلمةُ “الحقّ” هي نفسها كلمة “الحقيقة” في اللُّغَة اليونانيَّة. هذا ما قالَهُ الرَّبُّ يسوعُ عن نفسه في الآية أعلاه. أوَّلُ خُطوَةٍ لاقتبال هذه الحقيقة، هي في أن نعيشَها قَولًا وفِعلًا، وأنَ نكونَ واحِدًا. هذا تَمامًا ما جذب الناسُ إلى القدّيس يوحنّا، إلى عمقِ البَريَّة حيث أقام. نظروا إليه فوَجدوهُ يعيش بموجبِ ما ينادي به. يَعطَشُ الناسُ دائمًا للصدق، ولكنّه في الوقت ذاتِهِ يُرهِبُ ويُزعِج، لأنّه كاشفٌ للباطِل، وعاشقه يُضطَهَد.

لكن في النهايَة، الرَّبُّ يسوعُ هو الغالِب. وَهَذا ما تعنيه كلمة “”NIKA اليونانيّة، التي نُشاهدُها مَكتوبةً على الصَّليب في الكنيسة. لقَد قال لنا الرَّبّ: “لاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلكِنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا، بَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِنَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ وَالْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ.” (مت ١٠: ٢٨)، والمقصود به هنا هو الرَّبّ.

الكلمة الثَّالثة هي “الحياة”: لا نُضَيِّعنَّ الوقت بالبحثِ عن مصدرِها. فالرَّبُّ يسوع هو الحياة! لقد أدرك يوحنّا هذا الأمر منذ أن ارتكضَ في بطنِ والدتِهِ أَليصابات، التي عندما كانت حبلى به، امتَلأَت من الروحِ القُدسِ حينما سَمِعَت سَلامَ مريمَ لها.

للقدّيسِ يوحنّا المَعمدان أَلقابٌ ذَاتُ معانٍ لاهوتيَّةٍ كبيرة، نقرأها في الخِدَمِ الليتورجيَّة. فمثالٌ على ذلك: “لقد عرفناك خاتمةَ الأنبياء، إذ قد توسَّطتَ بين العهد القديم والجديد، فَنكرزُ بِكَ أنَّكَ الصابغُ والسابقُ للمسيحِ المُخَلِّص[2]“.

كان يوحنّا المَعمدانُ خاتمةَ الأنبياءِ الذين تَكلَّموا على مَجيء المُخلِّص. وكان أيضًا خاتِمةَ عهدِ الشَّريعةِ (القديم) وباكورةَ النِّعْمَةُ الجَديدة، أيّ العهدِ الجديد، كما نقرأُ في صلاة السَحَرِ أيضًا: “إنَّ الشَّريعةَ والنِّعْمَةُ أقامتاكَ جَلِيًّا وَسيطًا ومُكرَّمًا وخاتمًا الأولى ومُفتَتِحًا الثانيَة”.

كان يوحنّا أيضًا صابغَ المسيح، أيّ الذي عمّده. ولـِ “الاصطباغ”، في المسيحيَّة، معنًى خلاصيًّا، فهو التغطيسُ الكامِلُ بفعلِ النزولِ تحتَ الماءِ والصعودِ منه مِن أَجلِ حُلَّةٍ جَديدة. هذِهِ هي معموديَّتُنا الأولى لاقتبالِ الروح القدس. وهناك أيضًا معموديِّةٌ لنا تَستمِرُّ بواسِطَةِ دموعِ التَّوبةِ الصادقة للولادةِ الجديدة.

إذا قارنّا بين الفعل الذي استعمَلَهُ مَتّى الإنجيليُّ عندما ذَكرَ معموديَّةَ يوحنّا ومعموديَّةَ يسوع، “أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ، وَلكِنِ الذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الذِي لَسْتُ أَهْلًا أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَار.” (مت ١١:٣)، مَع ما قالَهُ الرَّبُّ يسوعُ ليوحنّا الحبيب وشقيقِهِ يعقوبَ عن اصطباغِه، أيّ عن مَوتِه وقيامَتِه، عندما طَلبا منه أن يَجلسَ الواحدُ عن يمينهِ والآخرُ عن يسارِه، حينَ كان ذاهِبًا إلى الصَلبِ طَوعًا، قال لَهما: “لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَانِ. أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الْكَأْسَ الَّتِي سَوْفَ أَشْرَبُهَا أَنَا، وَأَنْ تَصْطَبِغَا بالصِّبْغَةِ التِي أَصْطَبغُ بِهَا أَنَا”؟(متى ٢٢:٢٠)، إذا قارنّا بين المقطعين، لوجدنا أنَّ الفِعلَ[3] المستعملَ (في اليونانيّة) لـِ”المعموديّة” ولـِ”الاصطباغ” هو نَفسُه.

لذلك نَجدُ أنَّ هُناكَ أيضًا معمودِيَّةَ الدَمِ –الاصطباغ– مِن أَجلِ الإنجيل، التي اصطَبَغَ بها يوحنّا عندما قُطِعَ رأسُه، والتي تَمَّمَها الرَّبُّ يسوعُ المسيح على الصليب. كما نَجدُ أيضًا في سِيَرِ القدّيسين أَمثِلَةً حَيَّةً على ذَلِك.

أيضًا، كان القدّيس يوحنّا سابقًا للمسيح، أَيّ الذي أتى قَبلَهُ مُباشَرَة، فكانَ يقول[4]: “لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ بَلْ إِنِّي مُرْسَلٌ أَمَامَهُ” (يوحنا ٢٨:٣). لذلك نشاهِدُ أيقونَتَهُ مَوضوعَةً عَلى الإيقونسطاس، على الجانِبِ الأَيسَرِ لأَيقونَةِ الرَّبّ.

كذلك تَصِفُ الليتورجيّةُ يوحنّا بأنَّه يُماثِلُ الملائكةَ بِعَيشِه في القَفر. فَنَجِدُهُ مِثالًا للرهبانِ والنسّاك والزاهدين، وصَوتٌ صارخٍ يَدعو إلى التَّوْبَة، وَمُبَشِّرٌ بِالحَقِّ شُجاعًا دونَ تَردُّدٍ أو مُوارَبَة، ومُوَبِّخٌ للملوكِ عَلانِيَّةً بِغَيرَةِ النبيِّ إِيليّا.

إلى جانِبِ ما ذَكرناهُ أَعلاه، يُلَقَّب يوحنّا أيضًا بـِ “ملاكِ الصَحراء”، ارتباطًا بِما تنبَّأّ بهِ مَلاخي النَبيّ عنهُ (ق ٥ ق م): “هأَنَذَا أُرْسِلُ مَلاَكِي فَيُهَيِّئُ الطَّرِيقَ أَمَامِي”(ملاخي٣:١).

أمّا الفَنُّ الإيقونغرافيُّ عن القدّيس يوحنّا المَعمَدان، فَهوَ غَنيٌّ جِدًّا وَمُتَنَوِّع.  يُظهرُهُ حامِلًا صَليبًا لأنَّه استَشهَد، وحامِلًا يافِطَةً تَدعو إِلى التوبَة. كما تُظهرُهُ أيقوناتٌ أُخرى حامِلًا رَأسَهُ المقطوع، كأسَ خَلاصهِ وفَخرَه. ويُمكِنُ أن نشاهدَهُ أيضًا مع جَناحَين على ظَهرِهِ كالملاك. وَهُناكَ أيقوناتٌ يَحملُ فيها كأسًا بداخلِه الرَّبّ يسوع المسيح الحَمَل الذَبيح، الذي عِندما نَظَرهُ مُقبِلًا إِليه لِيَعتَمِد قال فيه: “هُوَذَا حَمَلُ اللهِ”!(يوحنّا ٣٦:١).

يوجدُ خصائصَ مشتَرَكَة في أيقوناتِ هذا القدّيس: رشاقَةُ قامتِه تشيرُ إلى صَومِه وزُهدِه. فَقَد كانَ طعامُه جَرادًا وَعَسَلًا بَرِّيًا؛ وله وجهٌ ذو طابعٍ نسِكِيٍّ يُشيرُ إلى جهادِهِ في البَريَّة، وكَذلِكَ ثيابُهُ التي كانت مِن وَبَرِ الإِبل.

خُلاصة: قَد لا نستطيعُ أن نُماثِلَ عيشةَ القدّيس يوحنّا المَعمَدان في البَرِيَّة، ولكِن يُمكنُنا بكلِّ تَأكيدٍ أَن نُماثِلَ سيرتَه المَلائكيَّة، بِحَملِنا جَناحَين هما: جَناحُ الصِّدقِ الذي تَمتَّعَ بِه، وَجَناحُ التَّوْبَةِ التي دعا إِلَيها.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1]. مولده في ٢٤ حزيران.  قطع رأسه في ٢٩ آب. الحبل به في ٢٣ أيلول. العيد الجامع في ٧ كانون الثاني. تذكار وجود أوّل وثاني لهامته في ٢٤ شباط. تذكار ثالث لوجود هامته في ٢٥ آيار.
[2]. صَلاةِ سَحَرِ عيدِه الجامع، الواقع في اليوم التالي لعيد الظهور الإلهيّ.
[3]. هو فعل “صبغ”، وباللغة اليونانيّة βαπτίζω Baptízō، وترجم إلى اللغة الإنكليزية To Baptize والفرنسيّة Baptiser.
[4]. أيضًا، في إنجيلِ مرقسَ نَسمَعُ: “وَكَانَ يَكْرِزُ قَائِلًا: «يَأْتِي بَعْدِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلًا أَنْ أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِه”(مرقس٧:١).

 

الأب أثناسيوس شهوان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.