لبنان وشربل

رَفَعوهُ لَوْحَةً في مَغاوِرَ قُبورٍ، وإحتَفَلوا بإنْجازٍ، وَما كانَت إلَّا صَوَرُهُمُ.

ما أعنَفَ الرِياءِ! هُمُ ما عَرِفوهُ، وَلا شَهِدوا لِعَمَلٍ قاموا بِهِ. مَناصِبُ. لا أسماءَ هُمُ. لا إلّا لَعْنَةً صَدَّقَتْ ذاتَها مَرْجَعاً، فَتَباهَتْ، كَما لَوْ أنَّ الوَيْلَةَ تَتَباهى بِتَفَجُّرِ العَثَراتِ مِن دَفَّتَيْها.

لا! لَيسَ شَربِلُ طَبيباً أغْرَقوهُ بالمادِّياتِ، وأثْخَنوهُ بِحَبائِلَ أعْدادِ مُعجِزاتٍ وَشِبْهَها. حَذَفوهُ لِيُصَيِّروهُ عَدّادَ أرقامٍ.

لا! لَيسَ شَربِلُ سَفيراً يَدعَمونَهُ بِسِباقِ تَفَوُّقٍ، ما كانَ إلَّا الأبْعَدَ عَنْهُ. حَذَفوهُ لِيُصَيِّروهُ مُتَوَغِّلَ تَسَلُّطِهِمِ.

لا! لَيسَ شَربِلُ وَحدانِيَّاً يَستُرُ عُيوبَ تَوَحُّدِهِمِ بِوِحْشَةِ الأنانِيَّاتِ الَليْسَت إلَّا في ظَمَأ لِلْنَهَمِ. حَذَفوهُ لِيُصَيِّروهُ حِجاباً لإحتِكارِهِمِ.

هو، شَربِلُ، المُنسَحِقُ طَوعاً، يُجاوِرُ الأذِلَّةَ لِيَمحوَ جِراحَ الجَريحِ والجارِحِ غُفراناً وَتعزِيَةً. الَملَكوتُ بَينَ يَدَيْهِ ثِمارَ أرْضٍ مِن تُرابٍ، إلحاحُ سُلْطانِها أنَّها ما خُلِقَتْ إلَّا لِلسَماءِ. وَكُلُّ مَسْراهُ نُسْكٌ عَراء مِنَ المَدى الى اللامَدى وَما فَوْقَهُما.

أهُوَ في حَجٍّ أبَديٍّ؟ بَل هو لبنانُ.

لُبْنانِيٌّ هو، وَلُبنانِيَّتُهُ كَينونَةٌ في النَقاءِ. قِدّيسٌ هو، والقَداسَةُ أن تَكونَ اللهَ، صورَةً وَمِثالاً.

الُلبنانِيُّ-القِدِّيسُ. سَيِّدُ قَرارِهِ في الصَميمِ. هي تِلكَ ثَورَتُهُ التي حَمَلَها مِن قِمَّةِ القِمَمِ، بِقاعْكَفرا، الى قِمَمِ عَنَّايا-المَحْبَسَةِ، وَمِنها الى قِمَّةِ الأرْضِ وَقِمَمِ أقاصِيها. هُوِيَّتُهُ طَبيعَتُهُ، بِبُعْدَينِ: إلَهِيٍّ وإنْسانِيٍّ. بِهِما، هو لُبنانِيٌّ حَقٌّ وَقِدِّيسٌ حَقٌّ. أُقْنومانِ في وِحْدَةٍ لا إنْفِصامَ فيها. وَهو ذَلِكَ لُبنانُهُ، مُحَرِّرُ الإنسانِ مِن كُلِّ ما لَيسَ هو.

أفي قَداسَتِهِ إستِحالَةَ بُلوغِ أعْماقِ مَدارِكَ اللامَنْظورِ؟ أبَداً، فالآتي لِلعالَمِ، ثائِراً، مِن أعْماقِ قِمَّةِ القِمَمِ جَعَلَ لبنانَ المَسيحانِيَّ وِحْدَةً، كِيانِيَّتُها قِمَمُ جَوْهَرٍ-قِمَّةٍ. لا تَرَدُّدَ فيهِ. لا مُبالَغَةَ. لا إخْتِلاطَ وَلا إنفِصالَ. جَوهَرٌ ظاهِرٌ بالجَسَدَ، حاضِرٌ بَيْنَ البَشَرِ. كامِلٌ وَفَوقَ كُلِّ المَدارِكَ. لا مَظْهَرَ جَوهَرٍ، وَلا شِبهَهُ.

ذُرْوَةٌ مِن نورٍ لا ما في قُبورٍ يَحْجُبُها، مَهْما إستَهْدَفَتْها ظُلُماتُ مَغاوِرَ.

الصَخْرَةُ

قُلّْ بَعْد: لبنانُ شَربِلُ-الثائِرُ وِحدَةُ اللامُتَناهيُ بالمُتَناهِي. مَرْئِيَّةٌ مِنْ خِلالِ الأُلوهَةِ بِخَصائِصِها، كَما مِنْ خِلالِ الإنْسانِ بِخِصائِصِهِ. وَلِكِلَيهِما. شَربِلُ يُؤْمِنُ بِها وَيُعلِنُها. بالصَمْتِ، ذاكَ الحِوارَ المُباشَرَ مَعَ اللهِ، وَحْدَهُ القادِرُ على مُخاطَبَةِ المَسْحوقينَ بمَقولاتِ إنْسِحاقِهِمِ.

أصَخْرَةٌ شَربِلُ-لبنانَ؟ بَلِ الصَخْرَةُ-الجَسَدُ المُقَدِّمَةُ للهِ الإنْسانِيَّةَ بِكامِلِها في جَسَدِهِ ألْمِن تُرابِ لبنانَ. جَسَدٌ قائِمٌ في أرْضٍ مُعَلَّقٌ بالسَماءِ. أعْجوبَتُهُ الأُعْجوبَةُ، تِلكَ الثَورَةَ التي نَفَخَها روحاً في كَنيسَتِهِ كي لا تَبْقى تُراباً يَفنى بأرْضِيَّاتِ التُرابِ. تُغَلِّفُها ظِلالُ المَوْتِ، فَتَرجوها أكْثَرَ لِتَنْحَبِسَ بِها. وَيَعْتَوِرُها صَقيعُ الخَطايا، فَتَتَواتَرُ مُستَطيبَةً الجُثُوَّ أمامَها لِطَمْسِ تَعَثُّرِها أمامَ النِعْمَةِ… وَقَدْ نَبَذَتْها.

إعْجازُ شَربِلُ-الصَخْرَةَ، أنَّهُ حَوَّلَ إنْجِرافاتِ كَنيسَتِهِ وإشْتِهاءاتِها وإشْتِهاءاتِ الإنْسانِيَّةِ وإنْجِرافاتِها الى تَقَشُّفِ التَعاوُنِ مَعَ الأُلوهَةِ، لا بِتَمادِياتٍ مِيتافيزِيقِيَّةٍ بَلْ بِمُناجاةٍ تَجَلِيَّاتُها حُرِيَّةٌ: “يا آبَ الحَقِّ، هوَذا إبْنُكَ المَذْبوحُ…”

بِذَلِكَ أعادَ لِكَنيسَتِهِ وَلِلإنْسانِيَّةِ، عَظَمَتَهُما. وَما هَذا بإكْتِسابٍ خارِجَ كَينونَتِهِ. فَشَربِلُ مُدْرِكٌ أنَّ كِيانِيَّتَهُ الُلبنانِيَّةِ تَفوقُ كِيانِيَّاتِ مُغْرَياتِ هَذا العالَمِ، وَكِيانِيَّتُهُ المَسيحِيَّةُ تَجَذُّرٌ فَرادَتُهُ أنَّهُ لا يَتأتَّى مِنْ مَصْدَرٍ-فَيضٍ إلَّا المَسيحُ-الكَلِمَةُ.

عِثارُهُ شَربِلُ، الإعْتِرافُ بِهَذا اللبنانُ الذي هوَ مِنْهُ. لَهُ. لِلْكَنيسَةِ. وَلِلعالَمِ. وَمِعْيارُهُمُ لِلحَياةِ.

تِلكَ الثُلاثِيَّةُ بَينَ لبنانَ وَالكَنيسَةِ والعالَمِ، التَعْبيرُ عَن مَكانَةِ شَربِلَ-لبنانَ وَلبنانَ-شَربِلَ… لَيسَ يُدْرِكُها الغَرقى بِطُقوسِيَّاتٍ تُبْرِزُهُمُ كِفاياتِ صُوَرٍ لا تُعَزِّي، إذْ أقْصَتِ اللهَ-الحَقيقَةَ، وأتْرَعَتِ نَفْسَها.

 

د. ناجي م. قزيلي

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.