أسئلة حول مبادرة “الاعتدال” الرئاسية… هل من “جدية” فعلاً؟!

في وقتٍ تتعثّر كلّ الوساطات والمبادرات الداخلية والخارجية على خطّ استحقاق الانتخابات الرئاسية المؤجَّل منذ تشرين الأول 2022، وشبه المجمَّد منذ ما قبل بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، قفزت إلى الواجهة في الأيام الأخيرة مبادرة جديدة أطلقتها كتلة “الاعتدال” النيابية، وجالت بها على مختلف الأفرقاء، حاصدةً تأييدًا لافتًا من البعض، وحماسة مُستغرَبة من البعض الآخر، وسط رهانات لا تخلو من “المبالغات” برأي كثيرين.

لعلّ المفاجأة الأولى في هذا السياق، وهي ربما التي أعطت مبادرة “الاعتدال” طابع الجدّية، تمثّلت في موقف رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع الذي سارع بعد لقائه وفدًا من الكتلة، إلى وصف المبادرة بـ”الجدية”، وإعلان موافقته عليها، وهو ما استغربه كثيرون، ولا سيما أنّ “الحكيم” سبق أن رفض مبادرات “شبيهة”، كان آخرها مبادرة “حوار الأيام السبعة” التي أطلقها رئيس مجلس النواب نبيه بري، ولم تلقَ التجاوب.

وفي حين لم تخرج مواقف سائر الكتل عن الترحيب “المبدئي” بالمبادرة وما تضمّنته باستثناء “حزب الله” الذي لم يُدلِ بموقفٍ واضحٍ خارج “الثوابت” لجهة الانفتاح على الحوار والدعوة إلى التوافق، كان معبّرًا موقف رئيس حزب “الكتائب” سامي الجميل الذي قال صراحةً إنّه “لم يفهم” فحوى المبادرة، بل اعتبر أنّ القيّمين عليها أنفسهم “لا يفهمونها جيّدًا ولا يعرفون ما هي”، مستغربًا كيف رحّب بها الجميع من دون أن يفهموا ماهيّتها.

وبين المواقف المرحّبة وتلك المشكّكة، التي سلّط الجميل الضوء عليها، ثمّة أسئلة مشروعة تُطرَح حول مبادرة “الاعتدال”، فما هو جوهرها فعلاً؟ وبماذا تختلف عن غيرها من المبادرات التي طُرِحت منذ الفراغ الرئاسي وحتى اليوم؟ وهل صحيح أنّ كلّ فريق يفهمها على ذوقه، أو ربما “يفصّلها على مقاسه”؟ وأبعد من هذا وذاك، هل يمكن القول إنّ هذه المبادرة “جدية فعلاً”؟ وهل تنجح في تحقيق ما عجزت عنه “الخماسية” مجتمعةً؟!.

في المبدأ، يقول العارفون إنّ تساؤلات النائب سامي الجميل حول المبادرة قد تكون في محلّها، للعديد من الأسباب، أولها أنّ فحواها لا يزال محلّ أخذ وردّ في سياق تسريبات صحافية، من دون أن يصدر شيء رسميّ بشأنها، حتى عن كتلة “الاعتدال” نفسها، وثانيها أنّ ما ظهر منها لا يجعلها في الواقع مختلفة عن غيرها من المبادرات، ولا سيما مبادرة رئيس مجلس النواب التي رفضها من سارع إلى الترحيب بمبادرة كتلة “الاعتدال” من دون أيّ تفسير.

صحيح أنّ المحسوبين على “القوات اللبنانية” مثلاً حاولوا نفي أيّ نوع من “التناقض” بهذا المعنى، من خلال الجزم بأن مبادرة “الاعتدال” لا تنصّ على حوار، بل على تشاور داخل مجلس النواب، لكنّ العارفين يعتبرون أنّ هذه المقاربة لا تبدو واقعيّة، ولا سيما أنّ “التشاور” ليس سوى اسم حركيّ للحوار، وقد سبق أن رفضته “القوات” حين دعا إليه الفرنسيّون، حتى حين ابتعدوا عن كل الحقل المعجمي للحوار، وأطلقوا عليه صفة “اجتماع عمل”.

أكثر من ذلك، يقول العارفون إنّ مصدر “الحماس” للمبادرة قد يكون في الحديث عن جلسات انتخابية مفتوحة أو متتالية ستعقب التشاور بمعزل عن نتائجه، رغم الفارق بين المفهومَين، وهو ما يحتاج إلى توضيح من رعاة المبادرة، لكن هنا أيضًا ثمّة من يذكّر بأنّ “المنطق” نفسه قامت عليه مبادرة بري سابقًا، حين حصر الحوار بسبعة أيام، يتعهّد بأن يدعو بعدها إلى جلسة انتخابية، لا تنتهي إلا بتصاعد الدخان الأبيض، وبالتالي انتخاب رئيس للجمهورية.

رغم ذلك، يجد المتحمّسون لمبادرة “الاعتدال” بعض المميّزات التي تجعلها “أكثر واقعية” من غيرها، أولها أنّ مشكلة البعض مع “حوار بري” لم تكن في مبدأ الحوار، بل في هوية من يفترض به “إدارة” هذا الحوار، وهو “طرف” في المعركة، في إشارة إلى بري، في حين أنّ ذلك لا يسري على كتلة “الاعتدال” التي حافظت طيلة المرحلة الماضية على “مسافة من الجميع”، وكرّست “وسطيتها” من خلال عدم الانخراط في أيّ معسكرات أو تقاطعات.

لكن، هنا أيضًا ثمّة أسئلة تُطرَح حول “الآلية” التي يقوم عليه الحوار أو التشاور الذي تنصّ عليه مبادرة “الاعتدال”، ولا سيما أنّ بعض المحسوبين على الكتلة صرّحوا بأنّ “لا مدير له”، قبل أن يقترحوا وجود “ميسّر للجلسة” يعطي الكلام لهذا أو ذاك، فهل يمكن أن يحصل حوار من هذا النوع وبهذا الحجم من دون من يديره عمليًا؟ ومن يضمن عدم تحوّله في هذه الحالة إلى “نسخة” عن البرامج الحوارية التي أضحت أشبه بـ”سوق عكاظ” في مكانٍ ما؟

وفي المقابل، ثمّة أسئلة يطرحها آخرون حول فكرة “الجلسة الانتخابية المفتوحة”، فهل يمكن فعلاً “فرض” مثل هذا الأمر على النواب؟ من يجبر هؤلاء على الحضور إلى مجلس النواب والمشاركة في هذه الجلسة وعدم تعطيل النصاب، بمعزل عمّا إذا كان هذا التعطيل “حقًا ديمقراطيًا مشروعًا” كما يتباهى البعض بوصفه، أو “احتيالاً يرقى لمستوى الانقلاب” على الدستور والميثاق، كما يعتقد كثيرون، ممّن لا يرون فيه أيّ ممارسة ديمقراطية؟.

عمومًا، يقول العارفون إنّه بعيدًا عن الضجة التي أحاطت بمبادرة “الاعتدال”، والتي قد تكون إيجابية إلى حد بعيد، ولا سيما أنّها حرّكت الملف الرئاسي بعد ركود طويل، فإنّ الواضح أنّها غير كافية للحديث عن مبادرة “جدية”، ليس فقط لأنّ ملامحها لم تكتمل، أو لأنّ ظروف الانتخاب لم تنضج بعد، ولكن قبل هذا وذاك، لأنّ الأطراف المتنازعة التي فصّلها كلّ منها على مقاسه، لم تجد فيها سوى “وسيلة” لتقاذف المسؤوليات مرّة أخرى.

بهذا المعنى، يمكن أن يُفهَم الترحيب “المُستغرَب” لرئيس حزب “القوات” بالمبادرة التي لا تختلف عن غيرها في المضمون والجوهر، إلا بوصفه “محاولة لرمي الكرة” في ملعب خصومه، وتحديدًا “حزب الله”، عبر “إحراجه” وتصويره على انّه من يعطّل السير بها، ولا سيما أنّ الحزب كان يتّهم جعجع بتعطيل انتخاب الرئيس برفضه الحوار، حتى إنّ نائب أمينه العام قال قبل أيام إنه “جاهز لانتخاب رئيس غدًا”، إلا أنّ المشكلة لدى غيره.

باختصار، لا توحي الوقائع بأنّ مبادرة “الاعتدال” ستكون قادرة فعلاً على تحقيق ما عجز عنه غيرها، حتى لو صحّ ما يُحكى عن وجود “مرجعية إقليمية” خلفها، كما حاول البعض الإيحاء، تمامًا كما أنّها لا توحي بأيّ “مرونة أو ليونة مستجدّة” لدى أيّ فريق، بعيدًا عن محاولات “تسجيل النقاط” التي لا تقدّم ولا تؤخّر، أقلّه بانتظار “كلمة سرّ” لا يُعتقَد أنّها ستصل في المدى المنظور، وقبل انتهاء الحرب الإسرائيلية على غزة وجنوب لبنان!.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.