بنديكتوس الكبير: لبنان في هيكل الله

كانَ إصرارُهُ أن يأتيَ الى لبنان، لا لِكَي يُكَوكِبَ الشَرقَ والعالَمَ حَولَ غايَةِ هَذا الوَطَنِ الَذي ما عَرِفَهُ قَبلاً إلَّا في الكِتابِ المُقَدَّسِ وَمُنطَلَقاتِ الفِكرِ البَشَريِّ، فَحَسبَ. بَل لِكَي يُتَوِّجَ بِهِ ثالوثيَّتَهُ الفِكرِيَّةَ-اللاهوتِيَّةَ، هوَ أهَمُّ لاهوتيٍّ عَرِفَهُ تَوَهُّجُ الكَنيسَةِ مُنذُ أغُسطينوسَ.

أجَل ثالوثِيَّةُ بنديكتوس السادِسَ عَشَرَ، الَتي تَقَولَبَ حَولَها فِكرُهُ الهائِلُ، إرتَفَعَت على حَواضِرَ، وِفقَ ما خَلُصَ إلَيهِ في خِطابِهِ أمامَ مَجلِسِ النُوَّابِ الفِدراليِّ في بِرلينَ، عاصِمَةِ مَوطِنِهِ (22 ايلول 2011): “إنَّ ثَقافَةَ أوروبا ولِدَت مِنَ الِلقاءِ بَينَ أورشَليمَ وَأثينا وَروما. مِنَ الِلقاءِ بَينَ الإيمانِ بإلَهِ إسرائيلَ، وَالعَقلِ الفَلسَفيِّ لِليونانِ، وَالفِكرِ القانونِيِّ لِروما. هَذا الِلقاءُ الثالوثِيُّ يُشَكِّلُ الهُوِيَّةَ العَميقَةَ لأوروبا.”

وَهوَ الحامِلُ عَلى مَنكِبَيهِ رُبعَ قَرنٍ مِنَ التَعلِيمِ العاليَ، يُدرِكُ أنَّ “العَقلَ الفَلسَفيَّ لِليونانِ” ما إنطَلَقَ مَعَ سُقراطِ، مُختَصِرِ البُعدَ الإنسانِيَّ بِمَقولَةِ “إعرَف نَفسَكَ”، بَل مَع ذاكَ الآتِيَ مِن شَواطِئ لبنان، حَامِلاً مَعَهُ هَمَّ “البَدءِ، المُتَحَدِّرِ مِنَ اللوغوسِ-الكَلِمَةِ”: طاليس. الَذي مِنهُ غَرَفَ اللاهوتُ المَسيحانِيُّ تَجَوهُرَ العَقلِ البَشَريِّ بالإيمانِ بالأُلوهَةِ.

وَهوَ مَن أمضى سَنَواتِ عَطائِهِ “عامِلاً مُتَواضِعاً في حَقلِ الرَبِّ”، عَلى ما إعتَرَفَ، في روما، حاضِرَة الشَهادَةِ والإستِشهادِ في سَبيلِ مَن بِجَسَدِهِ وَدَمِهِ غَدا فادِيَ البَشَرِيَّةِ، يُدرِكُ أنَّ “الفِكرَ القانونِيَّ لِروما” ما قامَ إلَّا على أكتافِ عُلَماءَ مَدرَسَةِ بَيروتَ لِلحَقِّ، وأعلَى بَدئِهِمِ اولبيانوسَ الَذي مِنَ تِلكَ الشَواطِىءَ عَينِها.

بَقيَت أورشَليمُ، حاضِرَةُ الهَيكَلِ، الَتي لِمَلكيصادَقَ الُلبنانِيَّ، كاهِنَ الأبَدِ والأزَلِ الَذي لا لَهُ بَداءَةُ أيَّامَ وَلا لَهُ نِهايَةَ حَياةٍ، وَإلَيهِ كانَ سُجودُ إبراهيمَ. لَكِنَّهُ، وَهوَ مَن غَدا خَليفَةَ بُطرُسَ، في نَيسانَ العامِ 2005، يُدرِكُ أنَّ أور-سالِمَ: مَدينَةَ السَلامِ، بانَت “قاتِلَةَ الأنبياءِ وَراجِمَةَ المُرسَلينَ إلَيها”، على ما بَكاها السَيِّدُ. وَهيَ المُتآمِرَةُ عَلَيهِ، أسلَمَتهُ لِلهَوانِ والمَوتِ… فَرَدَّ عَلى ضَلالِها، جاعِلاً مِن جَسَدِهِ هَيكَلَ الحَياةِ الأبَدِيَّةِ، بُشرى القِيامَةِ وَعلامَتُها.

في هَذا الهَيكَلِ الَذي بِهِ وَطِىءَ السَيِّدُ المَوتَ بالمَوتِ، وَقامَ في اليَومِ الثالِثِ، وَجَدَ بنديكتوس، الحَبرُ الأعظَمُ… لبنانَ: “لبنانُ حاضِرٌ في هَيكَلِ الرَبِّ!” هَتَفَ في كَلِمَةِ وَداعِ بَيروتَ، مُختَتِماً بِها زيارَتَهُ الأخيرَةَ لَلعالَمِ (14-16 أيلول 2012)، الَتي بِها تَوَّجَ حَبرِيَّتَهُ، قُبَيلَ إختيارِهِ “صُعودَ قِمَّةَ جَبَلٍ أُخرى، إلَيها دَعاني الرَبُّ”، مُتَنازِلاً عَن سُدَّةِ بُطرَسَ لِيَنصَرِفَ مُتَنَسِّكاً في الصَلاةِ مِن أجلِ الكَنيسَةِ والعالَمِ.

الأكبَرُ

في لبنانَ-القَلبِ، لَمَسَ عُمقَ السَلامِ-الحَقِّ، النابِعَ مِن فِكرٍ لَم يَفرِضَ عَلى أحَدٍ نُكرانَ هَوِيَّتِهِ وَلا الخَوفَ عَلى قَومِيَّتِهِ الدينيَّةِ: “العالَمُ العَرَبيُّ والعالَمُ بِرُمَّتِهِ شاهَدوا، في هَذهِ الأوقاتِ المُضطَرِبَةِ، مَسيحِيّينَ وَمُسلِمينَ مُجتَمِعينَ لِلإحتِفالِ بالسَلامِ.” قالَها أيضاً في الوَداعِ، وَتأثَّرَ: “إنَّ حَماسَكُمُ وَقَلبَكُمُ مَنَحانيَ طَعمَ العَودَةِ.”

أجَل! لبنانُ-العَقلُ الَذي ما هَوَّنَ قيمَتَهُ بالدونِيَّاتِ، لا مِن حَيثُ تُراثَهُ وَلا تَقاليدَهُ، لَم يُغلِق بابَ السَماءِ لأَحَدٍ. هوَ الَذي ماتَ عَن خاصَّتِهِ والعالَمِ، كَرَّسَ أمَّوِيَّتَهُ إنسانِيَّةً لا عُنصُرِيَّةً.

سَقَطَت أورشَليمَ. وإرتَفَعَ هوَ مَفتوحاً لِكُلِّ مَن يَسجُدُ لِلهِ بالحَقِّ.

أجَل! بِلُبنانَ، الأكبَرُ مِن حَواضِرَ الوجوبِ، الجاعِلُ مِنَ الخاصِّ واجِبَ وُجودِ العامِّ، الحَدُّ بِذاتِهِ غَيرُ المُتَجاوَزِ، إكتَمَلَت ثالوثِيَّةُ بنديكتوسَ الكَبيرَ، لا لأُوروبا بَل لِلعالَمِ-الجَوهَرِ: أثينا-روما، الُلبنانَوِيَّتانِ، لبنانُ-الَلبنانِيُّ. صَميمُ الأُمَّوِيَّةِ الكَونِيَّةِ… وَنِضالُها.

د. ناجي م. قزيلي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.