“بيت التباريس” في بيروت واحة ثقافية فنية للموسيقيين الشباب لمتابعة دراستهم

في الطبقة الأولى من مبنى تراثي في بيروت، يجتمع موسيقيون لبنانيون شباب في “بيت التباريس” حول عازف كمان فرنسي، يستمعون إليه بشغف مقدماً ملاحظاته على عزفهم، ضمن مبادرة تتيح لهم متابعة تدريبهم مجاناً في ظل الأزمة الاقتصادية.

هذا “البيت” الذي شيد في أواخر القرن التاسع عشر ويقع في حيّ التباريس البيروتي الراقي، في مبنى أبيض مؤلف من خمس طبقات تتميز نوافذه بمصاريعها الخشبية الخضراء، فتح أبوابه أمام محبي الموسيقى الكلاسيكية ومحترفيها قبل أشهر بمبادرة من الباحثة في التراث الموسيقي اللبناني والكاتبة زينة صالح كيّالي.

حوّلت كيّالي منزل طفولتها الذي ورثته من والدها سمير صالح، المحامي اللامع وعازف البيانو الشغوف بالموسيقى، إلى “مساحة موسيقية وثقافية”، على ما تقول، ومكان إقامة لفنانين عالميين لتدريب العازفين ومنشدي الأوبرا الشباب والجوقات المحلية.

وفي مكتبة البيت المذهلة التي تضمّ بين كتبها قسماً كبيراً عن الرحّالة، وتزيّنها رسوم توثق جمال الشرق كما رآه المستشرقون، تتحدث  كيّالي عن هذه المبادرة لوكالة فرانس برس وعن شغفها بالموسيقى وتعلّقها ببلدها.

وتقول كيّالي التي نشأت في هذا البيت في مناخ عابق بحبّ المطالعة والفن “أحببت أن أضعه في تصرف الموسيقيين اللبنانيين الشباب الذين أحبطتهم الأزمة الاقتصادية وحالت دون تمكنهم من أن يتابعوا دراستهم في الخارج (…) في وقت لم تعد الحياة الموسيقية في لبنان كما كانت”.

وفي البيت ذي التراث الفني الذي كان ينبض بالأنشطة الموسيقية في الماضي، تستضيف كيّالي “موسيقيين أوروبيين مهمين لتقديم دروس للعازفين اللبنانيين الشباب من دون أي مقابل مادي كي يبقوا في لبنان ولا يهاجروا”، على ما تشرح. وتتلقى دعماً مادياً من جهات عدة.

ويحلّ الموسيقي الأجنبي ضيفاً على “بيت التباريس”، ويمضي يومياً على مدى أسبوع وقتاً مكثفاً مع مجموعة من المهتمين باختصاص الأستاذ الزائر. وفي نهاية ورشة العمل، يقدم المشاركون حفلة موسيقية في غرفة الاستقبال التي تتسع لنحو 80 شخصاً.

وتروي مؤسِسة “مركز التراث الموسيقي اللبناني” أنها قررت بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس 2020 أن ترمم “بيت التباريس”.

وتقول إن عائلتها هجرت بيت التباريس خلال الحرب الأهلية في لبنان (1975-1990) “التي تسببت بتدمير الكثير من محتوياته، وتعرّض خلالها للنهب مرات عدة إذ كان قريباً من  خطوط التماس” بين شطري بيروت المنقسمة. وتضيف “حافظ المهندس الذي تولى ترميمه بعد انفجار المرفأ على روحه وجعله مريحاً وعملياً”.

وتمثل هذه الشقة التراثية التي تبلغ مساحتها 400 متر مربع، نموذجاً للبيت البيروتي العريق بهندسته الداخلية التقليدية. ويتميز بسقفه العالي وليوانه المستطيل الذي يتوسطه محراب رخامي والمحاط بغرف نوم أربع، وتزين جدرانه لوحات زيتية لفنانين تشكيليين لبنانيين معاصرين.

ويصف عازف الكمان الأساسي في أوركسترا الأوبرا الوطنية في باريس أرنو نوفولون الذي يدير حالياً ورشة عمل في” بيت التباريس” المكان بأنه “جميل ومثالي لإقامة هذا النوع من اللقاءات والحفلات.إنه واسع وفي الوقت نفسه حميم”.

ويشكّل “بيت التباريس” فسحة أمل لطلاب الموسيقى في وقت يشهد تعليم الموسيقى في لبنان نزفاً بسبب تدني قيمة  رواتب الأساتذة في ظل التراجع الكبير لقيمة الليرة اللبنانية في مقابل الدولار.

وما دفع  نوفولون لأن يأتي إلى لبنان هو الحاجة إلى اساتذة موسيقى. ويقول “أشعر هنا أنني مفيد جداً”.

ويرى عازف الكمان والأستاذ في المعهد العالي للموسيقى ماريو الراعي أن دور “بيت التباريس” بات “أساسياً وخصوصاً في ظل الوضع الاقتصادي الصعب على الطلاب كما على الاساتذة”. فالمشروع “يوفّر المعرفة ويحفّز الموسيقيين الشباب على الاستمرار، إذ أن التدريب عادة مع موسيقيين مهمين عالمياً يستلزم تكلفة عالية في وقت لم يعد الموسيقيون اللبنانيون الشباب قادرين على متابعة دراستهم محلياً، ولا يستطيعون أن يسافروا”.

وعلى طاولة غرفة طعام جدرانها ملبّسة بالخشب وسقفها مزخرف، يضع الموسيقيون معدّاتهم. ويلاحظ نوفولون أنّ “لدى المشاركين في ورشة العمل مستوى جيداً لكنه متفاوت، إذ أن البعض محظوظ لكونه يتابع تعليمه بانتظام، فيما مستوى الآخرين أقل بسبب غياب الدروس”.

وسمعان وهبه (23 عاما) من هؤلاء المحظوظين اذ يدرس العزف على آلة الكمان في ألمانيا ويتابع ورشة العمل مع أرنو خلال عطلته. ويقول عن تجربته لوكالة فرانس برس “أرنو  أستاذ بارع، أقارنه مع أساتذتي في ألمانيا. فملاحظاته مفيدة ويعطي كل موسيقي ما يحتاج إليه، كالانسيابية في الجمل الموسيقية والتقنية اللازمة”.

وتسمع زينة صالح كيّالي باستمرار إطراء من المشاركين، وتذكر ما قاله أحدهم خلال حصة دراسية قدّمها عازف البيانو الفرنسي اللبناني عبد الرحمن الباشا، من أن التدريب يجعل الطلاب ينسون “الدولار والبنزين” والأزمات الاقتصادية والمعيشية. وتقول “هذا الأمر يساعدهم ويجعلهم يتطورون ويتقدمون”.

وكرست صاحبة “بيت التباريس” 12 عاماً من حياتها للبحث والكتابة عن الموسيقيين اللبنانيين وتابعت حركة الحياة الموسيقية في لبنان ووثقتها في كتابها الاول “مؤلفون موسيقيون لبنانيون في القرنَين العشرين والحادي والعشرين”. أما كتابها الثاني فعنوانه “الحياة الموسيقية في لبنان من نهاية القرن التاسع عشر حتى يومنا”. وفي رصيدها أيضاً ثمانية كتب خصصت كلاً منها لمؤلف موسيقي، كعبد الرحمن الباشا وبشارة الخوري ووديع صبرا.

ويستضيف “بيت التباريس” في الأشهر المقبلة المؤلف الموسيقي ناجي حكيم الذي سيقدم طوال اسبوع دروساً عن كيفية التأليف، وكذلك رئيس جوقة وعازفة بيانو. ويقيم حفلة أوبرالية في 19 شباط/فبراير يشارك فيها كل من السوبرانو لارا نصار والميتزو سوبرانو ناتاشا نصار، ترافقهما على البيانو بيتي مطران عنوانها “عندما تؤلف النساء”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.