الحائِطُ النورانِيّ وَنَحنُ

ما ان يَدخُلَ الإنسانُ إلى كنيسةٍ أرثوذكسيّةٍ حتّى يلاحظ وجود “إيقونسطاس Iconostase / iconostasis ” أو ما يُسمّى باللغة العربيّة “حائط الأيقونات”، قائمٌ بينَ صَحنِ الكنيسةِ (وسطها) وَالهيكلِ المقدّس.

على هذا الحائطِ النورانيّ يوجد أيقونات، وفيهِ ثلاثةُ أبوابٍ تؤدّي إلى الهيكل. بابٌ كبيرٌ في الوسطِ يُدعى الباب المُلوكيّ، وبابانِ عَن يمينِه ويسارِه، ويُدعيان “بابان الشمّامسة” على اسم الشمّاسَين القِدّيسَين “استفانوس أوَّل الشهداء وإفرام السريانيّ، وأيضًا “بابان الملائكة”، لرَئيسَي الملائكة ميخائيل وجبرائيل. ويوضع أيقونة البشارة على الباب الملوكي، وأيقونة ملاك على البابين الجانبين.

قَد يكونُ الإيقونسطاسُ مِن خَشب، أَو مِن رُخامِ أو ما شابه. أَمّا ارتفاعُه وَعرضُه فيختلفانِ بينَ كنيسةٍ وَأخرى بحسبِ مساحة كلِّ كنيسَة.

كلمةُ إيقونسطاس يونانيّة وَتعني حَيثُ تقفُ الأَيقونة[1] وتَنتَصِب Icône station / Icon stand. وتُقال الكلمة[2] لأَيّ حاملِ أيقونة، داخل الكنيسة أو خارجها.

نحنُ البشرُ أيقوناتُ اللهِ على الأرض. الخالقُ خلقَنا لنبقى دائمًا مُنتَصِبين، وَرأسُنا مرفوعٌ نحوَه، نحوَ العلى لأَنَّنا أبناءُ العَليّ. أَمّا ما يَجعلُنا نَسقُط، فَهيَ الخطيئة. وكلّ مَرَّة نتوبُ فيها نَقِفُ مِن جديد.

للإيقونساطاس في الكنيسة دورٌ مهمُّ جِدًّا، وهناكَ تَرتيبٌ لوَضعِ الأَيقوناتِ عليه، بِحيثُ تَكونُ أَيقونةُ الضابطُ الكلّ الأقربُ إلى البابِ الملوكيّ (عن يمينِ المُشاهد)، وَعلى يسارِها أيقونةُ القدّيس يوحنّا المَعمدان، كَونُه السابق للمسيح، وآخِرُ نبيٍّ بَشّر بمَجيءِ المسيح، لذا هو خاتمةُ الأنبياء.

في الجانبِ الآخَرِ للبابِ الملوكيِّ (عن يسارِ المُشاهد)، تَقومُ أيقونةُ والدةِ الإله حاملةٌ الرّبَّ يسوعَ المسيح على ذراعها. وَعن يمينِها أيقونة شفيعِ الكنيسة.

تُعتَبَرُ هذه الأيقونات الأربع أساسيّة في كلِّ كنيسة. أمّا وجودُ أيقوناتٍ أخرى فَمرتَبطٌ بكبر مساحةِ الإيقونسطاس.

إنَّ وجودَ الأيقوناتِ أمامَنا في الكنيسةِ يُذكِّرنا دائمًا أنّنا نقفُ في مكانٍ مقدَّس، وأنَّ اللهَ يرانا. وَإذا أمعَنّا النَظر فيها، نَجِدُ أنفسَنا تَرتَفِعُ إلى وَطَنِنا الأوّل، السَماء. وَأنَّ اللهَ قد تَجسّدَ وصارَ إنسانًا مثلنا ليَرفَعَنا إليه، وهو حاضرٌ في وَسطِنا، ونحنُ مدعوونَ لننضمَّ إِليه، مع محفلِ القدّيسين.

كذلكَ، قبلَ أن يَبدأَ الكاهنُ بالقدّاسِ الإِلهيّ، يقفُ أمامَ الإيقونسطاسِ صباحًا في صلاة السَحَرِ، ليأخذَ ما يُسمّى بـِ “الكيرون”. أيّ إنَّهُ ينحني أمامَ البابِ الملوكيّ راسمًا إشارَة الصليب، وَيُصَلّي، ثُمَّ يَقترِبُ مِن كلِّ أيقونةٍ على الإيقونسطاس، فَيُقَبِّلَها وَيتلو صَلاةً خاصَّةً بِما تُمَثِّلُه.

كلمة “كيرون” يونانيّة من/ Kairos  καιρός وَتَعني الوقت، وهيَ ليست الزمَن χρόνος / Chronos .

فالوَقتُ في اللغةِ المسيحيَّة هو خروجُنا مِن الزمَن اليَوميّ الحاضِر، لنَنتَقلَ مع الرّبّ خارجَ الزمن. لهذا نقولُ قَبلَ البَدء بالقدّاس الإِلهيّ مُباشَرة، في ما يُسمّى بالتَهيئَةِ: “ها هوّذا وَقتٌ يُعمَلُ فيهِ للرّبّ”.

هذا ما يَدعونا إليهِ اللهُ قائِلًا: “فَانْظُرُوا كَيْفَ تَسْلُكُونَ بِالتَّدْقِيقِ، لاَ كَجُهَلاَءَ بَلْ كَحُكَمَاءَ، مُفْتَدِينَ الْوَقْتَ لأَنَّ الأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ”. (أفسس ١٥:٥-١٦).

قِمَّةُ الحِكمَةِ أَلّا نعيش حياتنا عبَثيًّا دونَ أن نُدركَ أَنّنا خُلقنا لنتقدّس. فحياتُنا فرصَةٌ غاليَةٌ جدًّا لنربَحَ الحياةَ الأبديَّة. فالرّبُّ افتدانا، ويَنتظرُ منّا أن نَقبلَ خلاصَه المَجانيّ. بينما عدوُّ الإنسان[3] دائم الاستعداد ليوقِعَنا في شِباكِه. هذا الأمرُ يتطلَّبُ منّا صَحوةً دائِمَةً وَيقظَة، وَمراجَعةً مُستمِرّةً للذات. أمّا عَكسُ ذَلك فَجَهلٌ ومَوت.

هناكَ قولٌ مأثورٌ يقول: “تَذكَّر، الوقتُ ثمينٌ مِثل المال[4]“. وكان هذا نصيحَةً مِن العالِم وَالفَيلسوف والكاتِب الأميركي Benjamin Franklin  (ق ١٨) قالَه لتاجرٍ شابٍّ يُحذّره فيه مِن الكَسل. وَذلِكَ بِهدَفِ الاستفادةِ مِن كلِّ لَحظة، لتَحقيقِ المزيدِ مِنَ الأرباح.

أمّا القِدّيسُ سيرافيم ساروفسكي (١٧٥٤-١٨٣٣م) فَيقول: “هَدفُ الحياةِ المسيحيَّة الامتِلاءُ مِن الرُّوحِ القُدس”. ويُتابِعُ شارحًا: “كما أنَّ التَّاجِرَ يَسعى بِكلّ جِدِّيَّة، مُستفيدًا مِن كلِّ لحظة، ليزيدَ أرباحَه، هَكذا نَحن، علينا أن نُجاهدَ على الدوام لنمتلئَ مِن الرُّوحِ القُدس، فلا أحد يَعرِفُ متى نَخسرُ فرصَةَ حياتِنا الأرضِيَّة”.

عودةٌ إلى الإيقونسطاس. يتلو الكاهنُ صلاةً وهوَ واقفٌ أمامَ أيقونَةِ السَيّد، والتي يبدأ بها، فيقول: “لِصُورَتِكَ الطَّاهِرَةِ نَسجُدُ أَيُّها الصَّالِحُ، طَالِبينَ غُفرَانَ الخَطايا أَيُّها المَسيحُ إلهُنا. لأنّكَ قَبِلتَ أن تَرتَفِعَ بِالجَسدِ على الصَّليبِ طَوعًا، لِتُنَجّيَ الّذينَ خَلَقْتَ مِنْ عُبوديَّةِ العَدُوّ. فلذلك نهتِفُ إليكَ بشُكرٍ: لقد ملأتَ الكُلَّ فَرَحًا، يا مُخلِّصَنا إذ أتيتَ لِتُخَلِّصَ العالم”.

قطعة الصَّلاة هذه، هي نَفسُها طروباريَّةُ أحد استقامة الرأَي، الأَحَد الأوّل مِن الفترةِ الثانيةِ مِن زَمَنِ التريودي. وفيه نُزيّحُ الأيقونات، إِذ يأتي المؤمنونَ إِلى القُدّاس الإلهيّ حاملينَ أَيقوناتِهِم المُقَدَّسة، ليَسيروا قافِلَةً واحِدَةً خَلفَ الإنجيلِ المُقدّس في زَيّاحٍ مَهيب، تَذكارًا لانتصارِ الإيمانِ القَويم، بَعدَ حوالي ١٢٠ عامًا مِن الحربِ على الأيقونات المُقَدَّسة، في القَرنَين الثامِن والتاسِع ميلاديّ، والتي دُعِيَت بـِ ” كَسرِ الأَيقونَة [5]Iconoclasme “.

لنتوقَّف أمامَ “حاملينَ أيقوناتِهم”. نَعم، كلُّ مؤمنٍ عندَه أيقونَة وَشفيع، لأنَّه أصلًا هوَ أيقونةٌ على رجاءِ تَحقيق الأصل، كما قال اللهُ: “نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا[6]“. بمعنى آخر، كلمةُ أيقونة εικόνα / eikóna باللغَةِ اليونانيّة تَعني صورةً لأَصلٍ ما. وَتُصبِحُ في الفَنِّ الكَنسيّ إِنجيلًا مَكتوبًا، لأنّها صورةٌ عن الأَصلِ الذي تُمثّلُه. ونَحنُ نُكَرّمُها بسببِ ما تُمَثّل.

فَمثلًا أيقونةُ الرّبِّ هي صورةٌ لتأنّسه، وَتأكيدٌ لصَيرورَتِه إِنسانًا، إذ قَبلَ تَجسّدهِ في العهدِ القديم، كان ممنوعٌ تَصويرُه ومستحيلٌ، لأنَّ اللهَ لم يَرَهُ أحدٌ قَطّ، بينما في العهد الجديد، فاللهُ تَجَسَّدَ[7].

خِتامًا، إنَّ مَسيرَةَ حياتِنا هيَ “إيقونغرافيّة”، أي سَعي دؤوب لتصيرَ صورَتُنا إِلهيّة، أيقونَةٌ حَيَّةٌ نورانِيَّةٌ، تَنمو في التَّوْبَة الصادِقَة التي تُزيلُ عنّا كلَّ غُبارِ الخَطيئةِ وظُلمَتِها، فَتُحيينا واقفينَ مِن جَديد.

إلى الرّب نَطلب.

الأب أثناسيوس شهوان
[1]. εἰκονοστάσιον / eikonostási(-on)
[2]. يدرج استعمال كلمة Iconostase / iconostasis في اليونان للإشارة إلى “أيقونة التقبيلة” في مدخل الكنيسة، والتي كناية عن أيقونة واقفة، وتستعمل كلمة Τέμπλον/ templon للإشارة إلى حائط الأيقونات، وهي مشتقة من كلمة هيكلtemple  في اللاتينيّة.
[3]. “اُصْحُوا وَاسْهَرُوا. لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ”(١ بطرس٨:٥).
[4]. Remember that time is money. صورته موجودة على العملة الأميركية فئة المئة دولار.
[5]. L’iconoclasme : Mot grecque, εἰκών eikôn «image, icône» et κλάω klaô «briser».
[6]. تكوين ٢٦:١
[7]. “الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا” (يوحنا ١٤:١)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.