العتب بمحبّة

سمعت يومًا والدتي تقول لأبي “لا تعتب ولا تتعتّب”. رافقت هذه العبارة أمّي طيلة حياتها، تقولها لأهل البيت والأقرباء، وكلّ مَن يسألها نصيحة.

كانت تبرّر لكل مقصّر في واجب إجتماعيّ أو عائليّ، قطعًا لدرب الفتنة بين العائلات والناس، ومنعًا لأي استغلال من هذا أو ذاك.

العتب كان عندها في سبيل إصلاحِ اعوجاجٍ أو تقويمِ مسارٍ، منعًا لأي خلاف. لم تنقطع يومًا عن الصلاة من أجل الآخر، من خلال تلاوة البراكليسي (صلاة تضرّع للعذراء مريم). تذكر أولًا في صلاتها كلّ من أساء إليها، والذين في الأمراض والضيقات والشدائد والأحزان، ولا تنسى المتخاصمين، والذين يعتبون ويعاتبون. كنت أسمعها، وأنا في مقتبل العمر، تقول وبشكل دائم، للذين يقصدونها في مشورة: “عاتب ولكن لا تحقد، وإذا وبّخت أحدًا فلا تحقد عليه”. طبعًا هذا نابع من إيمانها بتعاليم الإنجيل.

فقد ورد في إنجيل لوقا “إِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَوَبِّخْهُ، وَإِنْ تَابَ فَاغْفِرْ لَهُ”(إنجيل لوقا 17: 3). ينبّهنا السيّد المسيح على عثرة واضحة وهي عدم التسامح، ويدعونا لمعالجة أي خطأ يحدث من أحد بمعاتبته وتوبيخه، فقط من أجل ردّه إلى الطريق القويم. وفي متى 18: 15 ينبّهنا السيد أن يكون العتاب بعيدًا عن الأعين حتى لا يخجله، “وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَاذْهَبْ وَعَاتِبْهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَحْدَكُمَا. إِنْ سَمِعَ مِنْكَ فَقَدْ رَبِحْتَ أَخَاكَ”. فإذا تاب سامحه، ولكن إن لم يتب فسامحه في قلبك حتى ينال غفران الله، كما نصلّي في الصلاة الربانيّة “واترك لنا ما علينا، كما نترك نحن لمن لنا عليه”.

الإنسان الحكيم يعرف متى يسكت ومتى يتكلّم. العتاب أحيانًا كثيرة خير من أن يحمل الإنسانُ الغضبَ في داخله من أن يتحوّل إلى حقد. كما أن المعترف بالخطأ ينجو من دينونة. أمّا مَن يُصرّ على سلامة موقفه رغم معرفته بأخطائه فذاك يستهزئ به الناس. الذي يعترف بخطيئته يَغفر له الله، “إنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ”(1 يوحنا 9:1).

العتب قد يخلق شرخًا كبيراً في علاقات البشر، إن لم نقاربه بالمحبّة. لأن المحبة كما يقول بطرس الرسول: “… تَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ الْخَطَايَا”(1 بطرس 4: 8). لأنه بالمحبة تستر أخطاء الغير وعيوبهم، فيستر الله علينا ويغفر خطايانا، ويمتّعنا بصلاة هادئة مقبولة لدى الله، وبهذا يزداد اتحادنا بالرب.

الذي يحب إنسانًا، والمحبة هي سمة المسيحيّة، يتغاضى عن أخطائه مهما كثرت، ويحاول إخفاءها عن الآخرين، وذلك كما قال السيّد للخاطئة، ولِكثر شفاهم، “إذهبي ولا تخطئي”.

قبل أن نعاتب لنصلّي لله حتى يغفر ذنوب من يحبّهم ويستر على عيوبهم، فالصلاة بدون محبّة لا نفع لها بل هي غير مقبولة.

لم يعاتب يسوع المسيح زكا العشّار، على ظلمه وقساوة قلبه، ومحبّته للمال، بل ترك له توبيخ نفسه بنفسه، فتأثر بمحبّة يسوع له، وأعلن الرجوع عن ظلمه، وتعويض ما اغتصبه من مال الظلم، عدّة أضعاف. كما امتدح يسوع صدق السامريّة فى اعترافها بحالتها الفاسدة، ولم يوبّخها أو يلومها، بل جعل منها قدّيسة. ولا ننسى كيف دافع عن المرأة الخاطئة، التي بكت بالدموع ومسحت قدميه بشعرها، ولم يَدين الزانية بالفعل، موجهاً التوبيخ لمن جاء لرجمها. مواقف كثيرة ليسوع في الإنجيل تعلّمنا كيف نعاتب أو نوبّخ.

أحيانا‏ ‏بعض‏ ‏الآباء‏ ‏والأمهات‏ ‏يدللون‏ ‏أطفالهم‏! ويخشون‏ ‏جرح‏ ‏شعورهم‏ ‏بأية‏ ‏كلمة‏، أو عتب، ‏مهما‏ ‏كانت‏ ‏خفيفة‏ ‏لئلا‏ ‏يغضبوا‏، ‏ولكن‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏التدليل‏ وعدم التوبيخ ‏قد‏ ‏يضرهم‏.‏ لا بدّ ‏في‏ ‏بعض‏ ‏الظروف‏ ‏من‏ ‏عبارة‏ ‏توقظ‏ ‏المخطئ‏ ‏وترده‏ ‏إلى‏ ‏صوابه‏، ووزن‏ ‏هذه‏ ‏العبارة‏ ‏يتوقف‏ ‏على ‏مقدار‏ ‏الخطأ‏ ‏ومقدار‏ ‏احتمال‏ ‏المخطئ‏…‏

ها الأعياد على الأبواب، جاء موسم المعاتبات، فتبادل المعايدة أمر لطيف، لكن يقع في خانة اللياقات الاجتماعية، ولن يعاتبنا المسيح إن لم نعايد بعضنا بعضًا بمناسبة ميلاده، لكنّه سيعاتبنا إن لم نعايد بعطاءات كريمة، الفقراء والمحتاحين والأرامل والأيتام وكل حزين ومريض، هؤلاء هم العيد، فإذا عايدناهم عندها يشعر يسوع بفرح ولادته.

العتب بمحبّة خير علاج، عاتب مَن تحب، وخارج هذا المفهوم لا تقوم كنيسة أو وطن أو عائلة أو مؤسسة، لأن المحبّة تدجّن الآخر، مهما تكابر أم تجبّر ومهما خطئ، وتعلّم وتؤدّب، لأن الله محبّة.

الأب الياس كرم     

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.