مَعمودِيَّةُ الرُّوح والجِسْر

“وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ”. هذا ما قالَهُ الرّبُّ لتلاميذِه قُبَيلَ صعودِهِ إلى السَّماوات. جاءَ كلامُ يسوعَ تَأكيدًا على “مَوعدِ الآب” الذي سَمِعوهُ منه.

تُرى ما هو هذا المَوعِد؟ الكَلمَةُ في اللغةِ اليونانيَّة، التي كُتِبَ فيها العهدُ الجديد، هي ἐπαγγελίαν / epangelian  وتعني الإعلان الآتي مِن فَوق.

طبعًا هو إعلانُ (بُشرى) فَرحٍ وتَعزيَةٍ وَقوَّة. كيفَ لا وهوَ حلولُ الرُّوحِ القُدُسِ على تَلاميذِ يَسوع.

يَذكُرُ أيضًا كاتِبُ أعمالِ الرُّسلِ في إِنجيلِه، أيّ الإِنجيليُّ لوقا، أَنَّ هذا الحلولَ هوَ “قُوَّةٌ مِنَ الأَعالي”، سَيَلبِسُها التَّلاميذ. هذه القوّةُ ستجعلُهُم يُبَشِّرونَ بالإنجيلِ في كلِّ المَسكونَة.

كَم جميلٌ أن نَعرفَ بِأَنَّ هذا الرُّوحَ نفسَهُ نأخذُه في المعموديَّة، وما علينا إلّا تَفعيلهُ بالصَّلاةِ والتَّوْبَة، والالتصاقِ بالرَّبّ، والعَمَلِ بوصاياه. عندَئِذٍ نَنضَمُّ إلى مسيرَةِ الرُّسل، لأَنَّ هذه مسؤولِيَّةُ كلِّ واحدٍ مِنّا.

هناكَ صِفةٌ تُطلَقُ في الكنيسةِ الغَربيَّة وهيَ “Pontifical”. هي تَعني في عمقها “نَشرُ الكلمَة ومَدُّ الجُسور”. بحيثُ تَضُمُّ  كلمةَ Pont أيّ “جِسْر”. وهذه الصفة لَطالَما جَذَبتني، إذ إنَّها تَخُصُّ، في الحَقيقَة، كلَّ معمَّدٍ التَزَمَ بالإنجيلِ قَولًا وفِعلًا، عَيشًا وتَبشيرًا.

فإذا كانَ هدفُ الجِسْرِ الخَشبيِّ أو الحجرِيِّ أو المَعدَنِيِّ أو المصنوعِ من الإِسفَلت أَن يعبُرَ الناسُ عليه مِن مكانٍ إلى آخر، فيُساعدَ في التنقّلِ والتواصُل. هكذا يَهدفُ الجِسْرُ الإنجيليُّ إلى العبورِ مِن الموتِ إلى الحياةِ الأبديَّة، ومِن الظلمَةِ إلى النُّور، ومِنَ الخطيئَةِ إلى النِعمة، ومِن الحزنِ إلى الفَرح، ومِن الاضطرابِ إلى الطُمَأنينَة، ومِن اليأسِ إلى الرَّجاء، ومِن البُغضِ إلى المَحبَّة، ومِن الحِقد إلى المُسامَحَة، ومِنَ الانعزاليَّة إلى الانفِتاح، ومن البلبَلَةِ وَالتَّشْوِيشَ والفَوْضَى إلى السَّلام والهُدوءِ والتَّرتيب. وتطولُ اللائحةُ مع جسورٍ بشاريَّةٍ وخلاصيَّةٍ مَليئةٍ بالرُّوحِ القُدُس.

صحيحٌ أَنَّنا في أَحدِ العنصرَةِ نُعيِّدُ لحلولِ الرُّوحِ القُدُس، إِلّا أَنَّنا نُمَجِّدُ أيضًا الثَّالوثَ القُدوّس. هذا كلُّهُ لكي نعيشَ شَرِكَةَ مَحبَّةٍ وانسجامٍ مع اللهِ والآخرين وأنفسِنا، على صورَةِ شَرِكَةِ المَحبَّة الكائنةِ في ما بَينَ الأقانيمِ الثَّلاثة. هذا هُوَ عملُ الرُّوحِ القُدُسِ في الإنسان. لأَنَّ مَدَّ جِسْرِ التَّواصُلِ بينَ البَشرِ يَتِمُّ بالصدقِ والشَفافِيَةِ ولَيسَ العَكس.

هذا كلُّهُ لا يُمكنُ أن يَحصلَ إِلّا إذا مَدَدنا جِسْرًا مَع الله، وَخرجنا مِن تَقوقُعِنا المَريض، وفَتحنا قَلبَنا ليَدخلَ فيهِ الرُّوحُ الإِلَهِيّ، المُعَزّي، روحُ الحَقِّ.

إِنَّهُ المُعَزّي، لأَنَّهُ يَشفينا مِن مَرضِنا وعِبادَتِنا لأَنفسِنا وتسلُّطِنا المُدَمِّر، وخَوفِنا الذي يَطردُ المَحبَّةَ. وهوَ الحَقُّ لأنَّهُ يَنزَعُ كلَّ باطلٍ مِن نفوسِنا، ويَجعلُنا نَعيشُ الحَقَّ الذي هوَ الرَّبُّ يَسوع المسيح، فَنشهدَ لَه في أعمالِنا، وعِلاقَتِنا مع الآخرين.

 تَتَجدَّدُ معموديَّتُنا بالرُّوحِ القُدسِ في كلِّ مرَّةٍ نتوبُ فيها، فَننتَقِلَ مِنَ القَديمِ إلى الجَديد، ونكونَ في اتّحادٍ معَ الإنجيل. هنا تأتي ليتورجيَّةُ أحدِ العنصرَة لتقولَ: “عندما انحدَر العليُّ مُبَلبِلًا الألسُنَ (في بابلَ قديمًا) كان للأُممِ مُقَسِّمًا. وحينَ وزَّعَ الأَلسُنَ النارِيَّةَ، دَعا الكلَّ إلى اتّحادٍ واحدٍ. ولذلكَ نُمجّدُ بصوتٍ مُتّفقٍ الرُّوحَ الكليَّ قُدسه”.

هذا تَمامًا ما نشاهِدُهُ في أيقونَةِ العنصَرة: التلاميذُ جالسونَ بهدوءٍ في اتّحادٍ واحِدٍ، وثباتٍ كليٍّ، لأنَّهم بَنَوا أساساتِهِم على الصَّخرَةِ التي هي يسوع، ولَيسَ على أَنفُسِهم. يَجمعُهم الرُّوحُ القُدسُ الواحِدُ ليكونوا واحدًا مع أنفسهم أوَّلًا، وثانيًّا مع بَعضِهم البعض، وثالثًا في خِدمَتِهم.

نعم، إنَّ أيقونَةَ العنصرَة هيَ أيقونةُ الكنيسةِ. نَرى فيها التَّلاميذَ يَجلسونَ بِشكلِ نِصفِ دائريّ، والمكانَ العُلوِيَّ في الوَسَطِ فارغًا، لأَنَّه مكانُ الرَّبِّ، الذي صَعدَ إلى السَموات، وَلكنَّه حاضِرٌ مَعهم ومَعَنا إِلى الأَبَد.

إنَّ الرَّبَّ يسوعَ هو رأسُ الكَنيسةِ ومُؤَسِّسُها. فَكلُّ مَن يَشتَهي الجلوسَ مَكانَهُ لِيُمَثّلَه، عَليهِ أن يُدرِكَ تَمامًا، أنَّه يَجلبُ على نفسِه دينونَةً عظيمةً. هذا إذا حَوَّلَ كُرسِيَّ الرَّبِّ إلى كُرسيٍّ للكَتبَةِ والفَرّيسيّين، الذينَ مَجَّدوا أنفسَهم عِوَضَ أن يُمجِّدوا الله، وبشَّروا الناسَ بذواتِهم وليسَ بِخالقِهم، وبِاسمِ الإنجيلِ استبدَلوا الإنجيلَ بِمَشاريعِهم الخاصَّة.

كما يُلاحَظُ في تصويرِ التَّلاميذِ في أيقونَةِ العنصرة أنَّ لَهم الحَجمَ ذاتَهُ، مَع فَرْقٍ بَسيطٍ لا يُذكَر لِحجمِ بطرسَ وبولسَ المَوجودَينِ على رأسِ كلِّ صَفٍّ مِن صَفَّيِّ التَلاميذ: بُطرس على يمينِ الأيقونَة.

إنَّ طريقَةَ تصويرِ الأحجامِ بِهذا الشَكل، يخالِفُ مَبدأَ “المَنظورِ  perspective” المُتَّبَع، بِحَسبِ القُربِ والبُعد، إِلّا أَنَّ هذا لَه هَدف، وَهوَ أنَّ جَميعَ التَّلاميذِ مُتَساوونَ في الكرامَة، لأَنَّ الرُتَبَ الكهنوتِيَّة في الكنيسَةِ هي ثَلاثَة: الأُسقفُ والكاهِنُ والشَمَّاس.

هذا يُعيدُنا إِلى ما قالَهُ يسوعُ لبُطرسَ الرسول: أنتَ صَخرٌ “Petros” في إيمانِكَ، واعتِرافِكَ الّذي أُعلِنَ لكَ مِن فَوق بِأَنّي المَسيح ابن اللهِ الحَيّ، صَخرَةُ الكَنيسَة، وعلَى هذهِ الصَّخرةِ “Petra” أَبني كَنيستي.

إنَّ كلمَةَ “عنصرَة” تَعني: “مَحفل” أَو “اجتماع”. لِهذا نُشاهِدُ التلاميذَ يَجلسونَ كأَنَّهم في مَجمَع، وَيَتَلَقَّفونَ الرُّوحَ القُدُسَ نَفسَه.

هذهِ أَيضًا صورةٌ عَن “المَجمعِ المُقَدَّس” في الكَنيسَة، وهذا ما نُسَمّيه في كَنيسَتِنا المَجمعِيَّة La Conciliarité وِفقَ الإِنجيل. فَلِكُلِّ أُسقُفٍ دَوْران: دورٌ مَجمَعيٌّ يَعني بالكَنيسَةِ جَمعاء، وَدَورٌ يَختَصُّ بالخِدمَةِ المُباشَرَةِ الموكَلَةِ إليه، أَأَبرشِيَّة كانَت أو مَهام أُخرى.

جَيِّدٌ أن نُلاحظَ التَمايُزَ في وضعِيَّةِ جُلوسِ التَّلاميذ، فهوَ يُشيرُ إلى تَعَدُّدِ المَواهِب عندَ كُلٍّ مِنهم. فَالرَّبُّ لا يُلغي أَحَدًا، وَلا يَحصرُ المواهِبَ بشَخصٍ واحِد، بل يَحترمُ موهبَةَ كُلِّ إنسانٍ لأنَّها عَطيَّةً مِن لَدُنِ الله، وبِهذا يُكَمِّلونَ بَعضُهُم بَعضًا مِن أَجلِ خِدمَةِ الرَّبِّ والكَنيسةِ والإنجيل.

هناكَ أيضًا أمرٌ مُهمٌّ نَتَوقَّفُ عِندَهُ في الأيقونَة. فَعادَةً، يوجَدُ مَلكٌ يُمَثِّلُ العالَمَ أَجمع، يَحملُ بِيَدَيهِ قِطعةً مِن قماشٍ، نَرى فيها اثنَتا عَشَرةَ لُفافَةً، تَرمزُ إلى البِشارَةِ التي نَقلَها التَّلاميذُ الإثنَي عَشر إلى العالَم. وخَلفَ هذا المَلك، هناكَ العالَمُ القديم المُظلِم والهالِك. أمّا التَّاجُ الذي على رَأسِه، فَيرمُزُ إِلى سَطوَةِ الخَطيئَةِ على العالَم. فكلُّ تاجٍ دونَ الروحِ القُدسِ بَاطِل. اللَّونُ الأًحمرُ الظاهِرُ على ثيابِه، يرمزُ إلى الأَضحِيَةِ الباطلَةِ التي كانت تقدّم لغير الإله الحقيقي.

هنا نَصِلُ إلى الخِتام: فَلنَسألْ أَنفسَنا: مَن نَعبُدُ، وَمَن نَخدمُ، ولِمَصلَحَةِ مَن نَعمل، وبأي روح نعمل؟.

إِن التَصَقنا بالإنجيلِ وعَملنا بِه، لَخَدمنا الرّبَّ، وَاستَنرنا وَأنرنا العالَم مِن حَولِنا. فَيُثمرَ الروحُ القُدسُ فينا[1]. هذهِ هِيَ معموديَّةُ الروح ومد الجّسور.

وَإذا لَم نَفعَل، فَالظُلمَةُ المُهلِكَةُ بانتِظارِنا لا محالَة.

إِلى الرَّبِّ نَطلُب.

الأب أثناسيوس شهوان

 

[1]. مَحَبَّةٌ، فَرَحٌ، سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ، لُطْفٌ، صَلاَحٌ، إِيمَانٌ، وَدَاعَةٌ، تَعَفُّفٌ. (غلاطية 22:5-23)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.