محصّلة “زيارة” الحريري… “نصف عودة” بانتظار “التسوية”؟!

لم تكن “زيارة” رئيس تيار “المستقبل” سعد الحريري إلى بيروت في الذكرى السنوية التاسعة عشرة لاغتيال والده رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري كسابقتها في العام الماضي، بعدما امتدّت لأيامٍ بدت طويلة، ولم تقتصر على زيارة الضريح وقراءة الفاتحة، وإنما شملت إلى ذلك، لقاءاتٍ بالجملة مع معظم المسؤولين والقوى والأحزاب، فضلاً عن الوفود الشعبية والسياسية التي أمّت دارته، التي حرص أيضًا على “فتحها” أمام الجميع.

ومع أنّ كلّ مجريات الزيارة أوحت بأنّ الحريري “عاد” عن قراره المثير للجدل الذي اتخذه قبل عامين بتعليق العمل السياسي بكلّ أشكاله، بدليل إجرائه مقابلة تلفزيونية مع قناتي “العربية” و”الحدث”، فإنّه اكتفى بتعبير “كل شي بوقتو حلو” للردّ على المطالبات بعودته إلى السياسة، والتي شكّلت للمفارقة عنوان “تظاهرة” 14 شباط التي يفترض أنّ تياره السياسي هو من نظّمها من الألف إلى الياء، ولو حاول إعطاءها صفة “العفويّ والتلقائيّ”.

قال الحريري إنّ “الوقت الحلو” الذي قصده لم يأتِ بعد، وإنّه لا يزال على قراره بتعليق العمل السياسي، بانتظار “لحظة مناسبة” لم تأتِ بعد، لكنّ ذلك لم يمنعه من الإدلاء بمواقف سياسيّة واضحة، فتحدّث عن “مرحلة خطرة” يمرّ بها لبنان، وتطرّق إلى ملف الانتخابات الرئاسية، كما انتقد “حزب الله” الذي اتُهِم عناصر منه باغتيال والده، مستخدمًا حديث: “بشّر القاتل بالقتل ولو بعد حين”، ومذكّرًا في الوقت نفسه بسياسة “ربط النزاع” التي اعتمدها مع الحزب.

فما الذي تعنيه مثل هذه المواقف، طالما أنّ الحريري يقول إنه لا يزال على “اعتكافه”؟ وكيف يفسَّر مثل هذا “التناقض” بين تعليق العمل السياسي والإدلاء بمواقف سياسية واضحة؟ ما هي الرسائل التي يوجّهها الحريري من خلال زيارته والمواقف التي أدلى بها، وإلى من يوجّهها تحديدًا؟ وهل يمكن القول إنّ زيارة “جسّ النبض” إن جاز التعبير، لم تكن سوى تمهيد للعودة النهائية، الآتية “حتمًا” كما يقول البعض، في غضون أشهر أو ربما أسابيع قليلة؟!.

في المبدأ، يقول العارفون إنّ رئيس تيار “المستقبل” أراد فعلاً أن تكون ذكرى 14 شباط لهذا العام محطّة “عبور” من قرار الابتعاد والاعتكاف إلى العودة، ولو بقيت مؤجّلة إلى حين، بانتظار “ضوء أخضر” يرى البعض أنّه مرتبطة بتسوية إقليمية كبرى تعيد الحريري من بوابة رئاسة الحكومة، فيما يرهنه آخرون بالموقف السعوديّ حصرًا، ولو أنّ هناك من يعتقد أنّ “الشيخ سعد” لم يكن ليأتي بهذا الزخم، لو لم يكن قد حصل على “الموافقة السعودية” سلفًا.

بحسب العارفين، فإنّ كلّ تفاصيل الزيارة، في الشكل قبل المضمون، تؤكد هذا المُعطى، فالحريري الذي جاء العام الماضي إلى بيروت لإحياء ذكرى اغتيال والده “على خجل”، وكأنّه يقوم بـ”فرض واجب” ومن باب “رفع العتب” قبل أن يهمّ مغادرًا، جاء هذا العام بنفسيّة مختلفة بالمُطلَق، حيث لم تفارق الابتسامة وجهه، وفتح بابه أمام الجميع، وكلّها عوامل توحي أنّ عنوان الزيارة كان “جسّ النبض” تمهيدًا للعودة النهائية القريبة.

ثمّة من يشير إلى أنّ هذا “الانطباع” بدأ بالظهور قبل وصول الحريري إلى بيروت، وتحديدًا في اللحظة التي اختير فيها شعار “تعو ننزل ليرجع” على تظاهرة 14 شباط، وهو شعار يدرك القاصي والداني أنّ الناس لم يختاروه عفويًا، بل إنّ المحسوبين على الحريري شخصيًا هم من يقفون خلفه، علمًا أنّ بعضًا من هؤلاء، ممّن كانوا مصنّفين في الدائرة “اللصيقة” بالحريري، عادوا إلى الظهور الإعلامي المكثّف في هذا التوقيت أيضًا، وهذا ليس تفصيلاً.

وعلى الرغم من أنّ الحريري استخدم تعبير “كل شي بوقتو حلو” وكأنّه “كلمة السرّ”، للهروب من الاستفسارات والمطالبات الكثيرة، فإن العارفين يؤكدون أنّ انطباع “الرغبة بالعودة” اليوم قبل الغد تكرّس في كلّ خطواته، وهو ما يتجلّى في إعلانه صراحة أنّه ابتعد حتى ترى الناس الحقيقة، “واليوم الجميع يقول إنه يحب سعد الحريري”، فضلاً عن قوله إن تيار “المستقبل” سيكثّف عمله أكثر في المرحلة المقبلة، ولو “استثنى” الأمور السياسية من ذلك.

وإذا كان عنوان محطة 14 شباط لهذا العام التأكيد على “زعامة” الحريري التي لم تنطفئ باعتكاف العامين، فإنّ العارفين يقولون إنّ الرسالة الأساسية في هذا الاتجاه كانت موجَّهة للسعودية تحديدًا، بعد العجز عن إيجاد “البدائل الحقيقية” على الساحة السنية، ولكن أيضًا بعد “مرونة” يقول البعض إنّها برزت بعد الحرب الإسرائيلية على غزة، وما أفرزته من تصاعد في شعبيّة حركة حماس، وما يسمّى بـ”الإسلام السياسي” ضمنًا.

من هنا، ثمّة من يعتقد أنّ “المقابلة” التي أجراها الحريري مع قناتي “العربية” و”الحدث” السعوديتين شكّلت عمليًا أهمّ مضامين الزيارة، مع المواقف التي أدلى بها خلالها وعلى هامشها، والتي ابتعد فيها عن “مسايرة الجميع”، وكأنّه بذلك يقدّم “أوراق اعتماد” وفق ما فسّر البعض، علمًا أنّ تشديده أمام وفد من قطاع الشباب والطلاب في تيار المستقبل على أنّ الأخير هو “تيار الاعتدال”، وأنّه “لن يسمح بأي من أنواع التطرف” يبدو أكثر من “معبّر”.

بهذا المعنى، يمكن اعتبار الزيارة “خطوة أساسية” في مسار عودة الحريري إلى السياسة، لكنّها تبقى مؤجّلة بانتظار نضوج الظروف والمعطيات الإقليمية المناسبة كما يقول المحسوبون على الرجل، وهي الظروف التي يحصرها العارفون بـ”مباركة سعودية مطلوبة” يقولون إنّها تنتظر “تقييم” مجريات الأيام الماضية، ولو أنّ المؤشرات الأولية تبدو إيجابية للكثير من الأسباب والاعتبارات، التي تخصّ سياسات المملكة في المقام الأول.

وإذا كان الحريري الذي وعد يومًا بـ”بقّ البحصة” من دون أن يفعل، ينفي أن يكون للسعودية أيّ علاقة باعتكافه، وبالتالي بعودته إن حصلت، ويشدّد على أنّ كلّ ما يُقال حول هذا الموضوع غير دقيق، فإنّ المفارقة التي يتوقف عندها العارفون تكمن في قول بعض اللصيقين بالحريري جهارًا إنّ مثل هذه العودة يجب أن تتمّ ضمن “تسوية إقليمية كبرى”، وهو ما يرسم أصلاً علامات استفهام حول الدور الإقليمي في اعتكافه من الأساس.

في النتيجة، وبمعزل عن التحليلات والتفسيرات المتباينة والمتناقضة، وبغضّ النظر عن حقيقة ما يدور في الكواليس هنا أو هناك، فإنّ الثابت أنّ الحريري حقّق من خلال زيارته إلى بيروت ما يمكن اعتباره “نصف عودة”، فهو عاد ولم يعد في آنٍ واحد، إذ إنّه حجز موقعه من جديد في المعادلة، لكنه أرجأ العودة إلى ما أسماه “الوقت الحلو”، تاركًا الباب مفتوحًا على مصراعيه أمام التكهّنات حول طبيعة “الحلاوة” التي يقصدها تحديدًا!.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.