الدوائر الرسمية واهتراء الدولة بين المحسوبيات والتنفيعات!
كمثل أي مواطن، حملت أوراقي لتنفيذ معاملات خاصة في الدوائر الرسمية، المالية منها والعقارية. غريبًا عن سير المعاملات، لا أعرف من أين أبدأ، ولا أعرف كيف أنتهي، “متل دويك بالمدينة”. لكن الربّ نظر إلى عبده، فأرسل من يعينني ويوجّه طريقي من شبّاك إلى آخر، واتنقل بين المكاتب والطوابق والمباني، وفي كل محطة يرسل لي الله عونًا من أحد.
ما استوقفني في هذه الدوائر، كثافة المواطنين، الذين يحاولون تخليص معاملاتهم الخاصة، مثلي أنا، أو تخليص معاملات للمواطنين مقابل بدل أتعاب. إلا أن المشهد يفوق التصوّر والخيال، لا احترام ولا تباعد ولا تنظيم ولا ترتيب، ولا تهوئة، ولا إجراءات وقائيّة صارمة، والناس تسرق معاملاتها سرقة بين إضراب للموظفين وإضراب آخر، وبين توقّف لنظام الحاسوب من جهة، وآلات الطبع من جهة ثانية، وتعليلات تفوق الخيال.
طبعًا، لا يمكنني أن ألوم الموظف بالمطلق، والذي يعاني الأمرّين، ماديًا ومعنويًا، ولا يمكنني إلا أن أشعر مع المواطن الذي بمكان ما يُذلّ ويتقهقر، بأجواء يسودها تململ الموظفين من جهة، والاعداد الهائلة للمواطنين المنتظرين رحمة الموظف وتوقيع المسؤول. تخايلوا دائرة مهمة وحيوية جدًا، لا تحوي إلا على “نافذتين” للدفع، والناس تنتظر دورها كمشهد السيارات أمام محطات المحروقات.
بمكان ما، ليس لنا أن نحمّل الموظف كل تبعية التأخير، مع تسجيلنا لألف علامة استفهام وتعجّب، على موظفين يتقصّدون تأخير المعاملات، لغايات وغايات. إنما المسؤولية الأولى تقع على سلطات الوصاية والرقابة، التي تتبع لها هذه الدوائر، من وزارات ومدراء عامين ورؤساء مصالح، الذين لا يأبهون لأمر الناس، وكل همّهم منفعتهم الشخصية. وقد سمعت إحدى الموظفات تقول بالفم الملآن (لا الدولة عاطيتنا حقنا ولا الناس بيعطونا حقنا). فإهتراء الدولة، وتحويل مؤسساتها إلى محسوبيات وتنفيعات، أوصلنا إلى هذا الدرك، وأدخل دولتنا في مهبّ الريح، لأنّ المسؤولين فيها حّولوها، بالأساس، إلى شركة ذات منفعة خاصة.
بعد جهد جهيد، أنهيت المرحلة الأولى من المعاملات، وقد حملني المسار إلى رئيسة القسم للحصول على توقيعها، فبادرتني بالقول (تعّبناك اليوم)، وقد لاحظت من خلف زجاج مكتبها، الذي يشرف على ثماني موظفين، عليهم أن يلبّوا ألوفًا من المعاملات اليومية، لاحظت كم من مرة دخلتُ وخرجت لأعود ثانيًا وثالثًا لأتمّم معاملتي.
إنها ليست من ملّتي ولا من ديني، ولكن ما بدر منها، من كلمات مليئة بالإحترام، انستني كل ما عانيته من معاناة للحصول على التوقيع الأخير، قبل الإنتقال إلى مرحلة آخرى. باحت لي تلك السّيدة المحترمة، بما يعانونه من تعب وجهد، في ظل الأوضاع المأزومة، مع حرصها الدائم على تشديد وتشجيع وتطييب خاطر الموظفين، لأجل أن يخدموا المواطنين بالسرعة الممكنة.
لقد تشفّع بي جهلي لسير المعاملات، في الحصول على معاملتي بسرعة قياسيّة، وهنا أسجّل للموظفين والمسؤولين صبرهم في خدمة المواطن، ضمن الحد الأدنى، وهذا ما عزّاني بعد طول إنتظار.
تلك السيدة المسؤولة، والتي سمعتهم ينادونها (الرّيسة)، أوحت لي بالأمل، كما أوحى لي قبلها (ريّس) في مبنى ملاصق، أن بلدنا مازالت فيه القيم والإحترام أصيلة ومترسّخة “بعد في ولاد أصل” لأيّ طائفة أو مذهب إنتموا، رغم ما نعانيه من مصائب ومصاعب.
تفارقت مع السيدة المذكورة أعلاه، شاكراً الله على ما تبقّى من ضمير لدى بعض الموظفين، والذين أحيانًا يُظلَمون بألسنة غاشة، ودّعتها بالقول، إن احترامك لشخصنا، نابع من القيم والأخلاق الحميدة التي انسكبت تربية صالحة من أهلك، الذين اعتنوا بتربيتك، فترجمتها اليوم معنا. فالأخلاق لا تُشترى ولا تباع، إنما تنسكب من الربّ بالتربية الصالحة.
أما بعد، إن ما نشهده من أزمات إداريّة وماليّة وسياسيّة وإقتصاديّة وصحيّة، في كافة الدوائر، لدليلٌ واضحٌ، أن ما تمّ التخطيط له من الذين وكّلناهم إدارة البلد، ذاهبون إلى إسقاط كلّ مفاهيم الدولة، لنعود إلى زمن، لم تستطع السنوات أن تنسينا إياه. فللأسف لم يعد بإمكاننا أن نقنع أحدًا بالبقاء في البلد، وأبسط مقومات العيش غير متوفرة.
فنسألك يارب الرحمة علينا وعلى شعبك، آمين.
الأب الياس كرم