وَتَجَسَّدَ الإِلَهُ!…

يَكتبُ الأبُ Michel Quenot المتخصِّص في عِلمِ الأيقونات، في كتابِه Du Dieu-homme à l’homme-Dieu، أيّ من الله-الإنسان إلى الإنسان-الله: “إنَّ التجسُّدَ يُبرِّرُ وُجودَ أيقونَةِ القدّيسين”. بمعنى آخر، إِنَّ صَيرورَةَ اللهِ إنسانًا تُقدّسُنا وتجعلُنا نَقتبلُ الإلهيّاتِ، فَنرتفِع. هذا إِن شِئنا ذلك وسَعَينا إِليه.

إنَّ وَجهَ الإنسانِ، إذا اتَّحدَ بالله، يُصبحُ وجهَ المَسيحِ بالنعمَة. لأنَّنا في الأصلِ خُلِقنا على صورتِه. ونحنُ نُصَلّي ونقول: “لِيترَأفِ اللهُ علَينا ويبارِكنا، وَيُضِئ وجهُهُ علينا ويَرحَمنا”.

لا يَتعجَّبَنَّ أحدٌ إِذا قُلنا إِنَّنا نريدُ أن نرى وَجهَ خالقِنا. لقَد أرادَ ذَلكَ موسى النَبيُّ قَديمًا. وهناكَ حِوارٌ[1] رائعٌ في العهدِ الجَديد، دارَ بين الرّبِّ يسوعَ المسيحِ وتَلاميذِه، حيثُ قالَ لهم بِأنَّهُم يَعرفونَ الآبَ وقَدْ رَأَوهُ. فَما كانَ مِن فيلبُّسَ أَن قالَ لَه: “يَا سَيِّدُ، أَرِنَا الآبَ وَكَفَانَا”. أجابَه الرّبُّ: “أَنَا مَعَكُمْ زَمَانًا هذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! الذي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ”.

هَذا تَمامًا ما قالَه آباءُ المجمعِ المسكونيِّ الأَوَّل[2]، الذي التَأَمَ في نيقية عام 325م، والذينَ نُقيمُ تَذكارَهُم في الأحَدِ السادِسِ بَعدَ الفِصح. فالمتجسّد هو الإله الذي نعبده.

يَشرحُ الأبُ Michel في كلامِهِ عَن التَجَسّدِ الإلهيّ، بأنَّ هذا التدبيرَ الإِلهيَّ، قَد أعطانا الدَفعَ لنكونَ أيقوناتٍ على صورَةِ الرَّبِّ الذي تَأَنَّس، فكانَ هو النموذجُ الأَوَّلُ لَنا، وَهذا ما قَد دُعينا إِليه.

هذا التجسُّد الإلهيّ جعلنا نشاهِدُ اللهَ الخالقَ والضابِطَ الكلِّ وَجهًا لِوَجه ونستنير. فَهذا سِرٌّ يفوقُ إدراكَ العقول! ففي تذكارِ نَقلِ صورَةِ رَبِّنا يَسوعَ المسيح، الغيرِ المصنوعَةِ بِيَدٍ (المِنديل المُقدَّس) مِن مدينةِ الرَّها، في 16 آب، نقولُ: “على صورتِكَ يا ربُّ، خَلَقتَ الإنسانَ قَديمًا، وبرحمَتِكَ أَكّدتَ هذه الصورَة، بأخذِكَ إِيّاها دونَ أن يَعتَريكَ أيُّ تَغييرٍ (في أُلوهِيَّتِك)”.

ما أَعظمَ هذا السِرَّ الإِلهِيَّ النابِعَ مِن مَحبَّةِ اللهِ اللامتناهِيَة للبَشَر!.

تقولُ الخدمَةُ الليتورجيَّةُ أَيضًا: “لَم يَعُد هُناكَ وجودٌ للحُزنِ على وجهِ آدم، لأنَّهُ قَد لَبِسَ المَسيحَ الخالِق”. هَذا تَمامًا ما تُظهِرُهُ أيقونةُ “نُزولِ الرَّبِّ إلى الجَحيم”، المعروفَةُ بِأيقونَةِ القِيامَة، إِذ إِنَّنا نَرى فيها الرَّبَّ يَنتَشِلُ آدمَ مِن براثِنِ الشَيطان، مِن المَوتِ، وَهوَ يَرتدي ثَوبًا أَبيضًا كَثَوبِ الرَّب.

للأسفِ الشَديد، كثيرًا ما تَغفلُ البَشرِيَّة عَن هَذا الأمرِ وَتبتعدُ كثيرًا عن سِرِّ سَعادَتِها الحَقيقيَّة التي لا تَزول، وتَنحرفُ عَن سلامِها السماوِيِّ الذي يُعطيهِ الرَّب، لا كَما يُعطيهِ العالَم.

كَما أَنَّهُ لا يَسهو عَن بالِ أَحَد، أَنَّ العالَمَ يتخبَّطُ تَحتَ ثِقلِ آلهَةٍ مُزيَّفَةٍ وكاذِبَةٍ وَغاشَّةٍ لا يُحصى عَددُها. والتي هَدفُها الوَحيد هوَ إِلغاءُ الإلهَ الحَقيقيّ، الرَّبَّ يسوعَ المَسيحِ، مِن قلوبِ الناس.

لهذا نلاحظ أن في العيد الجامِعَ لوالدةِ الإِله، الذي يأتي في اليومِ التالي لعيدِ الميلادِ المَجيد، عيدِ ظهورِ اللهِ في الجَسد، نلاحظُ أن خِدمتُه الليتورجيّة تنضم إلى صَوتِ القِدّيسِ يوحنّا المَعمدان الصارِخِ في بَريَّةِ هذا العالَم، لِتُعلنَ وَتَقولَ: “أيُّ إِلهٍ عظيمٍ مِثل إِلهِنا”. وَتُتابِع، “كيفَ أَصِفُ هذا السِرَّ العَظيم. فإنَّ المُنزَّهَ عن الجَسدِ قد تَجَسَّد. والغَيرَ المَنظورِ يُنظَرُ إِليه. وَالذي لا بَداءَةَ له يَبتَدِئ. وابنَ اللهِ يَصيرُ ابنَ الإِنسان. يسوعَ المَسيحِ الذي هُو نفسُه أَمس واليَوم وَغَدًا”.

هذا الكلامُ، وإن بَدا غريبًا للبَعض، فهوَ وَحدَهُ دونَ سِواه، الذي يَطردُ كلَّ غريبٍ عن مَسيرتِنا نَحو التَوبَةِ واكتشافِ مَلكوتِ السَماواتِ في داخِلِنا، واستِعادَةِ سَلامِنا الداخِلي.

هَذا الأمرُ لا يَتمُّ بالكلامِ، ولا بِالدراسَةِ والوَعظ، بل بالاتِّضاعِ والعَمَلِ بِوصايا الرَّبِّ، وبالصَلاةِ والصِدقِ. لِهذا قال يسوع  لَنا: “تَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ[3]“.

إنَّ تَطبيقَ هذا الأمرِ في حياتِنا يَتَطلّبُ منّا أن نُحقِّقَ الشَرطَ الأساسيّ، الذي يأتي في بدايَةِ الآية: “اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ”.

ما هوَ يا تُرى هذا “النير”؟ وهل يَهوى المسيحُ عذابَنا، وألا نَتنعَّمُ بالراحَة؟ بالطبعِ لا! بَل العَكس تَمامًا.

لَقد استعملَ الرّبُّ كثيرًا مُفرداتٍ زِراعيَّة ليكونَ كلامُهُ بمتناوَلِ الجَميع. لأنَّ هَدفَهُ خلاصُ الكلّ، وليسَ التَكبُّرَ على الآخرينَ وإِظهارَ بَراعَتِه. هذا بحد نفسه تعليمٌ أساسيٌّ!.

أمّا “النيرُ” فهوَ الخشبَةُ التي تَربطُ ثَورَين إلى مِحراثٍ. لِهذا وُجِبَ أن يَكونَ الثَورانِ مُتعادِلانِ في القُوَّة، وَإِلّا انحرفَ الحَرْثُ. مِن هنا تَحديدًا قالَ المَثَلُ: “التَّلَمُ الأعوَجُ مِن الثَورِ الكَبير”. وهَذا أيضًا تَعليمٌ آخر. فَكم مِن تَلمٍ أعوَجٍ نَتَجَ عن مسؤولٍ، فانحرَفَ وَجَرَّ معَه كثيرون!؟.

لكنَّ الوضعَ مع يسوعَ يختلفُ تَمامًا. فَهوَ الصَالِحُ والقويُّ والغالِبُ دائِمًا. فَكلُّ مَن يُربَطُ معهُ بِنيرِه، لا يكون الحِمل عليه، بل على الرَّبّ، فَهو الذي يَحملُ أثقالَنا وصِعابَنا. عِندَئِذٍ يَخفُّ الحِملُ عَلينا مَهما ثَقُلَ. إِنَّ هذا لَسِرٌّ عَظيمٌ، قَد اختبَرهُ كثيرونَ وشَهدوا لَه!.

نختم مع آباءِ المَجمَعِ المَسكونيِّ الأَوَّل. فهم لم يأتوا شيئًا مِن عندهم، بل أعلنوا ما أعلنه يسوع عن ألوهِيَّته. هذا هو ألهنا، وَهوَ دائِمًا مَعَنا. هم اختبروا هذه الحقيقة وعاشوا هذا الإيمان. وكل مَن عاشَ هذا الخلاص، فَليُبَشِّر بِه.

إِلى الرَّبِّ نَطلُب.

الأب أثناسيوس شهوان

[1]. يوحنّا 7:14-9
[2]. “أومن بإله واحد، آب ضابط الكل، خالق السماء والأرض، كل ما يرى وما لا يرى. وبرب واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساو للآب في الجوهر، الذي به كان كل شيء. الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء، وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء وتأنس. وصلب عنا على عهد بيلاطس البنطي، وتألم وقبر. وقام في اليوم الثالث كما في الكتب. وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين الآب. وأيضا يأتي بمجد ليدين الأحياء والأموات، الذي لا فناء لملكه.”
[3]. متّى 11: 29

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

تم الكشف عن مانع الإعلانات

يرجى إلغاء تنشيط مانع الإعلانات الخاص بك حتى تتمكن من استخدام موقعنا.